منتديات بداي الشلاحي
مرحبا بكـ في منتديات بداي الشلاحي...
هذه الرسالة تفيد بأنكـ زائر،،،

عزيزي الزائر : لتتمكن من الرد على المواضيع المطروحة أو مناقشة مايطرحه الشلاحي من أفكار
يتوجب عليك التسجيل أولاً

~/~الإدارة~/~
منتديات بداي الشلاحي
مرحبا بكـ في منتديات بداي الشلاحي...
هذه الرسالة تفيد بأنكـ زائر،،،

عزيزي الزائر : لتتمكن من الرد على المواضيع المطروحة أو مناقشة مايطرحه الشلاحي من أفكار
يتوجب عليك التسجيل أولاً

~/~الإدارة~/~
منتديات بداي الشلاحي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


بدَّاي الشلاحي
 
الموقع  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  الدردشة  تويتر  قناة بدَّاي الشلاحي  دخولدخول  

 

 رواية البيت المائل - أجاثا كريستي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 8:30 pm

البَيْتُ المَائِل

كانت عائلة ليونايدز عائلة كبيرة سعيدة يعيش أفرادها بقناعة في بيت واسع (كثير الزوايا و الأشكال المثلثة) في بعض ضواحي لندن الفاخرة. و لكنهم يكتشفون – بعد مقتل أريستايد ليونايدز – أن بينهم قاتلاً...
الشرطة يراقبون و يحققون، و لكن جريمة أخرى كادت تقع أمام أنظار الجميع، ثم يكاد شخص ثالث أن يلقى حتفه. هل أمسك الشرطة القاتل الصحيح؟
"إنها واحدة من أفضل رواياتي...
أغاثا كريستي"


طُبعت للمرة الأولى باللغة الإنكليزية عام 1949

ترجمة: محمود الخطيب
مراجعة الترجمة: جهاد الكردي
تحرير: رمزي رامز حسّون
تنفيذ الغلاف: عروة مؤمن ديرانية
النسخة الإلكترونية: هيستينغز

مقدمة المؤلفة
هذه القصة من أخص رواياتي المفضلة، و قد حفظتها سنين طويلة أفكر في أمرها و أعيد النظر فيها. أقول لنفسي: في يوم ما، في الوقت المناسب، حين أريد إمتاع نفسي حقا، شوف أبدأ في كتابتها.
إن روايتي (( البيت المائل )) كانت متعة خالصة. و أتساءل كثيرا: هل يظن الناس الذين يقرؤون الكتب أن التأليف عمل صعب أم متعة؟ و كان الناس يقولون لي مرة بعد أخرى: ((لا بد أنك استمتعت بكتابة هذه القصة أو تلك)).
أما هذه القصة فأبَتْ بعناد أن تخرج كما أتمنى، فشخصياتها بغيضة و عقدتها متشابكى من غير ضرورة، و الحوار متكلف. و ربما لا يكون المؤلف أفضل من يحكم على عمله، و مهما يكن فكل من قرأ رواية (( البيت المائل )) قد أحبّها، و من أجل هذا أقول بأنها واحدة من أفضل رواياتي.
لا أعرف كيف جائتني فكرة عائلة ليونايدز؟ فقد جاءت هكذا، ثم – كما يقول توبْساي - : (( لقد نمت و ترعرعتْ)).
إنني أشعر بأنني كنت ناسخةً لهذه الفكرة ليس غير.
أغاثا كريستي.




- 1-
عرفتُ صوفيا ليونايدز أول مرة في مصر قبل نهاية الحرب العالمية. كانت تشغل منصباً إداريا رفيعاً في إحدى دوائر وزارة الخارجية هناك، و قد عرفتها أثناء وظيفتي بصفة رسمية فأُعجبتفي الحال بكفاءتها التي أوصلتها إلى ذاك المنصب رغم صغر سنها إذ كانت آنذاك في الثانية و العشريت من عمرها.

و إلى جانب حسن مظهرها فقد كانت ذكية و صريحة تسهل محادثتها رغم ميلها للسخرية، فأصبحنا صديقين، و أحببتها و رغبت في الزواج بها. كان ذلك حين تقرر نقلي للعمل في المشرق بعد خمود الحرب في أوروبا.

عزمت على هذا القرار بعدما تناولنا العشاء في فندق شبرد، فأقررت بحقيقةٍ كنت أعرفها منذ زمن طويل، فقد أعجبتني منذ رأيتها قبل الحرب! أعجبني كل شيء رأيته فيها: الشعر الداكن الأجعد الذي كان يتشامخ إلى أعلى من جبهتها، و العينان الزرقاوان المفعمتان بالحيوية، و الذقن البارز الصغير، و الأنف المستقيم، و ثيابها الأنيقة!

كانت تبدو إنكليزية ممتلئة بالحيوية، و قد أعجبني ذلك كثيراًبعد ثلاث سنين قضيتها غائبا عن بلدي. و فكرت في نفسي أنْ لا أحد يبدو إنكليزيا أكثر منها.. ترى هل تستطيع أن تكون إنكليزية حقا كما تبدو؟ هل يصبح الشيء الزائف كالشيء الخالص في الكمال؟
أدركت أن صوفيا – رغم حديثنا الحر الطويل و مناقشة الأفكار فيما نحب و ما نكره و المستقبل و أصدقائنا المقربين – لم تذكر شيئا عن بيتها و أسرتها. لقد عرفت كل شيء عني – و كانت مستمعة جيدة – و لكني لم أعرف عنها شيئا! كنت أقدر أن لها الجذور الاجتماعية المعروفة، لكنها لم تتحدث عنها قطّ، و لم أدرك الحقيقة حتى هذه اللحظو. سألتْني:

- فيم كنت تفكر؟

أجبتها بصدق:

- أنت!

- عرفت ذلك.

- قد لا نلتقي قبل عامين، لا أعرف متى أعود إلى إنكلترا، لكن أول شيء أفعله حين أرجع إلى إنكلترا هو المجيء لكي أراك و أطلب منك أن تتزوجيني.

تقبلت صوفيا الأمر دون أن يطرف لها جفن، و جلستٍ نحنسي القهوة دون أن تنظر إليّ، و شعرت بالعصبية قليلاً، قلت:

- اسمعي، سأفعل كل شيء إلا شيئاً واحدً، لن أطلب منك الزواج الآن، ربما ترفضينني فأرحل بعدها يائساً، و ربما أعشق ارمأة أخرى قبيحة حتى أنتقم لغروري، و حتى لو وافقتِ فما عسانا أن نفعل إزاء هذا الأمر؟ نتزوج في الحال؟ نعلن خطبتنا ثم نبقى على تلك الحال زمناً طويلاً؟

لا أحتمل رؤيتك على هذه الحال، فقد تلتقين رجلا غيري ثن تشعرين بأن عليكِ أن تكوزني مخلصة لي. أحب أن أراك تعودين إلى وطنك حرة مستقلة لكي تنظري حولك و تعرفي عالم ما بعد الحرب الجديد و تقرري ما تريدينه من هذا العالم، فالذي بيني و بينك يا صوفيا سيبقى خالداً لأنني لن أتزوج أي امرأة أخرى.

- و أنا أيضاً..

- هل تعلميبن بم أشعر؟

همست صوفيا:

- لا ينبغي الغزل الآن.

- حبيبتي، ألا تفهمين؟ لقد حاولت ألا أقول بأنني أحبك..

قاطعتْني:

- إنني أفهم يا تشارلز، و أنا أحب أسلوبك الغريب، قد تأتي لتراني حين تعود إن كنت تريد أن..

و قاطعتُها:

- لا شك في ذلك.

- الشك يدخل كل القلوب يا تشارلز، قد يظهر أحياناًأمرٌ غير محسوب و لا مقدّر يغير الأحداث كلها. تذكّر أنك لا تعرف شيئاً عني، أليس كذلك؟

- بلى، حتى أنني لا أعرف أين بيتكم في إنكلترا؟

- إنني أعيش في سْوينلي دين.

أومأتُ برأسي حين ذكرت هذه الضاحية الشهيرة في لندن التي تتباهى بثلاثة ملاعب غولف، و أضافتْ بهدوء و صوت مطمئن:

- في بيت صغير مائل..

و ضحكتْ فجفلتُ قليلاً، ثم أردفت بجملة مقتبسة:

- ((و كانوا جميعا يعيشون في بيت صغير مائل))، هذه حالنا نحن، بيتنا ليس بيتا صغيرا، لكنه حتما منحرف خشبي موشور الشكل، في سطحه زوايا كثيرة!

- هل أنت من عائلة كبيرة؟ إخوتك و أخواتك؟

أخ واحد و أخت واحدة، و أبي و أمي و عمي و زوجته و جدي و زوجته و خالة عجوز.

صحت و أنا مرتبك قليلاً:

- يا إلهي!

ضحكت صوفيا:

- نحن لا نعيش معاً، لكن الحرب و الغرات الجوية هي التي اضطرتنا أن نجتمع، لكنني لا أدري.. – و قطبت حاجبيها تفكر - .. ربما كان أبناء العائلة يعيشون معاً في الروح تحت رقابة جدي و حمائته، إنه رجل له شأنه. لقد تجاوز الثمانين من عمره، و هو قصير القامة، لكن شخصيته قوية بدرجة غير عادية.

- يبدو مثيرا للاهتمام.

- إنه فعلا كذلك، فهو يوناني من سميرْنا، اسمه أريستايد ليونايدز. ثم أضافت و عيناها تطرفان: و هو غني جداً!

- من يرثه بعد وفاته؟

- جدي سيقرر، و لن يئثر فيه أي أسلوب أو يزحزحه، إنه داهية! ترى، هل ستحبه؟

- و هل تحبينه أنت؟

- أكثر من أي شخص في الدنيا.

*****




- 2 -
كان ذلك قبل سنتين من عودتي إلى بلدي. لم تكن سنين الغربة سهلة، كنت أكتب صوفيا و أسمع منها كثيراً، و كانت رسائلها مثل رسائلي: رسائل صديقين حميمين لا رسائل حب، فكانت هي تكثر من ذكر شؤون الحياة اليومية، لكنني كنت أعرف أن مشاعر أحدنا تجاه الآخر كانت تزداد و تقوى.

و رجعت إلى إنكلترا في يوم هادئ كئيب من أيام أيلول: بدت الأوراق على الأشجار ذهبية في ضوْء المساء، و كانت الريح تعصِف.

أرسلت لصوفيا برقية من أرض المطار:

((لقد عدت لتوي.
أرجو أن نتناول العشاء معاً هذا المساء في ماريو الساعة التاسعة!
تشارلز))

بعد ذلك بساعتين كنت أجلس أقرأ جريدة ((التايمز)) و أتفحص أعمدة المواليد و الزواج و الوفيات، فوقعتْ عيني على اسم ليونايدز:

((في 19 أيلول، في ثري غابِلْز، سوينلي دين، مات أريستايدليونايدز زوج بريدنا ليونايدز المحب عن عمر يناهز الثامنة و الثمانين. مع الأسف العميق!))

ثم قرأتُ إعلاناً آخر:

((مات أريستايد ليونايدز فجأة في مسكنه ثري غابلز، سوينلي دين! ينعاه أولاده و أحفاده المحبون بعمق الأسى!
ترسل الورود إلى كنيسة القديس إلْيرْد في سوينلي دين))

أثار الإعلان استغرابي، فربما أدّى خطأ من جانب المحررين في الصحيفة إلى هذا الإزدواج، لكنّ شغلي الشاغل كان صوفيا.

أرسلت لها برقية ثانية على عجل:

((لقد قرأت لتوي خبر وفاة جدك.. آسف جداً!
متى أستطيع رؤيتك؟
تشارلز))

وصلتني برقية من صوفيا في السادسة و أنا في بيت أبي:

((سأكون في ماريو في التاسعة ليلاً.
صوفيا))

جعلتني فكرة لقاء صوفيا مرة أخرى عصبياً. و كان الوقت يمرّ بطء يثير الجنون. كنت أنتظرها في الماريو قبل الموعد بثُلث ساعة و تأخرت هي عن الموعد خمس دقائق.

إن لقاء شخص مرة أخرى بعد انقطاعٍ طويلٍ مربكٌ إلى حدٍّ ما و إن يكن حاضراً في ذهنك طوال تلك الفترة. حين دخلت صوفيا من الباب الدوار كان لقاؤنا متكلِّفاً. كانت تلبس الأسود بسبب الحداد بلا ريب، و قد فاجأني أن صوفيا من الذين يلبسون الأسود حقاً حداداً على قريب مات!

شربنا عصيراً ثم ذهبنا إلى طاولتنا. تحادثنا سريعاً بطريقة محمومة، نسأل عن الأصدقاء القادمى أيام كنا في القاهرة. و كان حديثنا مجاملة لكنه طغى على الارتباك الذي ساد بداية اللقاء.

واسيتها بوفاة جدها و قالت صوفيا بهدوء بأنها حدثت فجأة كلُّها.

ثم اطنلقت مرة أخرى للذكريات، وبدأت أشعر بالخوف من شيء ما، شيء غير الارتباك الطبيعي من اللقاء ثانية بعد غيبة طويلة. كان في صوفيا شيء غير طبيعي حتماً: هل تخبرني بأنها عرفتْ رجلاً آخر غيري تهتم به أكثر مني و أن إحساسها بي كان خداعاً؟ ساورني إحساس عميق بأن الأمر لم يكن كذلك، و لكني فشلت في الاهتداء إلى احتمال آخر، و في غضون ذلك أكملنا حديثنا المصطنع!

ثم فجأة عندما وضع الساقي القهوة لنا و تراجع و هو ينحني، بدأ الحديث يتغير، فأنا أجلس الآن مع صوفيا كما كنا نفعل من قبلُ كثيراً على طاولة صغيرة في مطعم، كأن سنين الغربة التي عشناها لم تكن أبداً. قلتُ:

- صوفيا!

- تشارلز!

تنهدتُ عميقاً دلالة على الارتياح و قلت:

- أحمد الله أن هذا الأمر قد انتهى و ولّى. ما الذي أصابنا؟

- ربما كانت غلطتي، كنت حمقاء!

- هل الأمرُ الآن طبيعي؟

- أجل.. طبيعي الآن.

و ابتسمنا، فقلت:

- حبيبتي، هل نتزوج قريباً؟

انطفأت ابتسمتها فأصابني الانقباض ثانية، قالت:

- ربما، لا أدري يا تشارلز إن كنت أستطيع الزواج بك؟

- و لِمَ لا يا صوفيا؟ ألأنك تشعرين بأنني غريب؟ أتريدين وقتاً لتعتادي عليَّ ثانية؟ هل عرفتِ رجلاً غيري؟

هزت رأسها و قالت:

- لا، ليس كذلك.. – و خفضت صوتها – .. بل بسبب موت جدي.

- موت جدك؟ لماذا؟ و ما الفرق؟ إنك لا تقصدين حتماً أن امتناعك بسبب المال، أليس كذلك؟ و هل ترك جدك مالاً؟ لكنّ الأمر يا عزيزتي..

- إنه ليس المال – و ابتسمت ابتسامة سريعة – أظن أنك سكتون راغباً تماماً أن تأخذني على حالتي الجديدة كما يقول المثل القديم، ثم إن جدي لم يخسر مالاً في حياته.

- إذن فما الأمر؟

- أظن – يا تشارلز – أن جدي لم يمت موتاً طبيعياً، ربما يكون قد قتل!

- يا لها من فكرة غريبة! ما الذي يجعلك تظنين أن جدك قُتل؟

- أنا لم أفكر فيها، بل كان الطبيب يشك في الأمر. إنه لم يوقّع شهادة الوفاة، و سوف يشرّح الأطباء الجثة، فلعل في الأمر شيئا غير طبيعي.

لم أجادلها، لأنها فتاة ذكية جداً، صاحبة آراء صائبة و استنتاجات سليمة، بل قلت لها جاداً:

- قد يكون لشكوكهخم أسبابُها، لو أن لها أسباباً فكيف يؤثر هذا علينا نحن الاثنْين؟

- قد يؤثر في حال من الأحوال، فأنت تعمل في السلك الدبلوماسي. إنهم شديدو الاهتمام بأمر الزوجات. لا، أرجوك لا تقل شيئا يتفطّر له قلبك! كأنك تريد أن تقول:((أريد أن يكون زواجنا حسناً، لا ينبغي لأحدٍ منا أن يضحي من أجل الحب!))، فما يدريك يا تشارلز؟ ربما يكون كل شيء طبيعياً..

- أيكون الطبيب قد ارتكب خطأ؟

- و إن لم يرتكب خطأ فلا يهم ما دام ذلك الشخص قد قتله.

- ماذا تقصدين يا صوفيا؟

- إنه أمر بغيض لكنني أريد أن أكون صريحة.

و أدركتْ صوفيا كلماتي قبل أن أقولها، فقالت:

- لا يا تشارلز، لن أقول شيئا آخر. ربما قلت كثيراً من قبل، لكنني أصررت على المجيء هنا و لقائك هذه الليلة؛ لكي أراك بعيني و أفهمك. لن نفعل شيئا حتى تنجلي هذه المشكلة.

- خبريني عنها على الأقل.

- لا أريبد يا تشارلز، لا أريدك أن ترى الأمر من زاويتي، بل أريد أن تكون نظرتك صواباً و أن ترى الأمر بطريقة صحيحة.

- كيف أفعل ذلك؟

قالت لي و هي تنظر إليَّ بعينين زرقاوين تبرقان بوهج غريب:

- فلتسمعه من أبيك.

كنت قد أخبرت صوفيا – و نحن في القاهرة – أن أبي يعمل مساعد مفوّض في سكوتلانديارد، و هو ما يزال كذلك. و عندما قالت كلمتها الأخيرة أحسست بالإحباط فقلت مستفسراً:

- إذن فالأمر سيّء إلى هذا الحد؟

- أظن ذلك، هل ترى رجلا يُطيل الجلوس إلى طاولة قرب الباب وحيداً؟ رجلاً وسيماً بليداً كان يعمل من قبل في الجيش؟ لقد كان هو نفسه على رصيف محطة سوينلي دين هذا المساء ساعة دخلتُ القطار.

- تقصدين إنه تبِعك إلى هنا؟

- نعم، أظن أننا جميعاً تحت الرقابة، لقد ألمحوا إلينا أن من الأفضل أن نمكث جميعاً في البيت، و لكنني كنت عقدت العزم على رؤيتك – و برز ذقنها الصغير و هي تتكلم مشاكسة – لقد خرجت من شباك الحمام ة انزلقت على أنبوب المياه!

- حبيبتي!

- لكن الشرطة قديرون في عملهم، و هناك طبعاً البرقيةُ التي أرسلتُها لك. حسناً، لا تؤاخذني، إننا هنا معاً لكنّ علينا من الآن فصاعداً أن نفترق.. و سكتت قليلاً ثم أضافت:

- و لسوء الحظ، فإن أيّاً منا لا يشك بحب صاحبه له يا تشارلز!

- لا شك بتاتاً، و لا تقولي:(( لسوء الحظ))، لقد بقيت أنا و أنت على قيد الحياة أثناء الحرب العالمية، و نجونا من الموت المفاجيء كثيرا، و لا أعلم كيف يدهم الموت عجوزاً فجأة؟.. كم كان عمره؟

- سبعة و ثمانين عاماً!

- أجل، قرأته في جريدة ((تايمز)) و لو سألتني لقلت أنه مات في الشيخوخة، و أن أي طبيب يحترم نفسه سوف يرضى بهذه الحقيقة.

- لو كنتَ تعرف جدي لأسِفْت على موته!

*****




- 3-
اهتممت على الدوام بعمل أبي في الشرطة، لكني لم أتهيأ للّحظة التي أكون فيها مهتماً بشكل مباشر هكذا. و لم أكن بعدُ قد رأيت الرجل العجوز، فعندما وصلت البيت كان هو في الخارج. بعدما اغتسلت و حلقت ذقني و غيّرت ثيابي خرجت من أجل صوفيا، و حين رجعت أخبرني جلوفر أنه كان في مكتبته.

كان يجلس وراء مكتبه عابساً يطالع كثيراً من الأوراق، و حين رآني داخلاً قفز عن مقعده مرحبّاً:

- تشارلز، لم أرك منذ زمن بعيد.

كان لقاؤنا بعد خمس سنين من الحرب لقاء يصيب أي فرنسي بخيبة أمل، و الحقيقة أننا كان بيننا عاطفة اجتماع الشمل؛ فأنا و العجوز نحب بعضنا كثيراً و نفهم بعضنا جيداً. قال العجوز:

- آسف لأنني كنت خارجاً حين وصلتَ هنا، إنني غارق في العمل حتى أذنيّ، تباً! لهذه القضية التي بدأت أدرسها الآن..

أسندت ظهري إلى الكرسي و سألته:

- قضية أريستايد ليونايدز؟

عبس العجوز و قطب حاجبيه و نظر إلي نظرة تقدير، و قال بلسان هادئ و قوي:

- تشارلز، كيف عرفت ذلك؟

- بلغتني معلومات.

- ما خطبك يا تشارلز؟ أخبرني.

- أخشى ألا يعجبك كلامي! لقد لقيت صوفيا ليونايدزفي القاهرة. أحبتها، و سوف أتزوجها. ألتفينا هذه الليلة. لقد تعشّت معي.

- تعشت معك؟ في لندن؟ و كيف خرجتْ؟ لقد طلبنا من أفراد العائلة ألاّ يغادروا البيت.

- أجل، لكنها انزلقتْ على أنبوب المياه من شباك الحمام.

ابتسم العجوز ابتسامة سريعة و قال:

- تبدو فتاة داهية!

- لكن شرطتكم قديرون تماماً، فقد تبعها شرطي إلى مطعم ماريو، و سوف ترى أوصافي في البيانات التي بين يديك: الطول خمسة أقام و أحد عشر إنشاً، الشعر بني، العينان عسليتان، بدلة كحلية مقلّمة..

نظر العجوز إليّ نظرة قاسية، و سألني:

- أهذا كلام جاد؟

- أجل، إنه كلام جدا يا أبي!

صمتنا برهة قصيرة، ثم سألته:

- و هل تمانع ذلك؟

- لم أكن لأمانع ذلك قبل أسبوع. إنها أسرة غنية جداً، و الفتاة سوف ترث المال، و أنت فتىً بالغ عاقل راشد، و لكن..

- ماذا يا أبي؟

- سيكون الأمر طبيعيا لو..

- ماذا؟

- لو كان الذي فعلها هو ذاك الشخص!

للمرة الثانية أسمع العبارة ذاتها في تلك الليلة، و بدأت أتشوق لمعرفة التفاصيل و جلاء الموضوع:

- من هو ذلك الشخص؟

نظر إليَّ نظرة حادّة:

- ماذا تعرف عن هذا الأمر؟

- لا شيء.

تساءل مندهشاً:

- ((لا شيء))؟ ألم تخبرك الفتاة؟

- لا، قالت بأنها تحب أن أرى الأمر من وجهة نظري من غيرتأثيرٍ منها.

- لماذا؟

- أليس ذلك واضحاً؟

- لا يا تشارلز.

و جعل أبي يروح و يجيء و ما زال عايساً. أشعل السيغار و نفث دخانه، فعرفت أن الوالد العجوز انزعج. ثم فاجأني بسؤال:

- ماذا تعرف عن العائلة؟

- تباً! أعرف أن هناك الرجل العجوز و العديد من أبنائه و أحفاده و أزواجهم. لكني لم أستوعب جميع أفراد هذه العائلة الكبيرة، ليتك يا أبي توضح الصورة لي!

قال و هو يجلس:

- نعم، هذا جيد. سوف أبدأ بالأب الكبير إريستايد ليونايدز، فقد وصل إلى إنكلترا و هو في الرابعة و العشرين.

- يوناني من سميرنا؟

- ها أنت تعلم هذا!

- أجل، لكن هذا هو كل ما أعرفه.

و انفتح الباب، و دخل جلوفر ليقول إن رئيس المفتشين تافيْرنر حضر فقال أبي:

- إنه المسؤول عن القصة فلْنُدخلْه، لقد كان يطلع على ملفّ العائلة، و هو يعلم عن أفرادها أكثر مما أعلم.

و سألتُ أبي إن كانت دائرة الشرطة المحلية قد استدعت سكوتلانديارد فقال:

- إنها من شأننا، لأن سوينلي دين تقع في منطقة لندن الكبرى.
و دخل رئيس المفتشين تافيرنر إلى الغرفة فأومأت برأسي محيّياً، فلقد كنت أعرفه منذ سنين. حيّاني بحرارة و هنأني على عودتي سالماً. ثم قال أبي:

- إنني أبين الصورة لتشارلز، فإن أنا أخطأت فذكّرْني يا تافيرنر. وصل ليونايدز إلى لندن عام 1844، حيث أنشأ مطعماً صغيراً في سوهو، و كان ناجحاً، فأنشأ مطعماً آخر، و ما زال هكذا حتى صار يمتلك سبعة مطاعم أو ثمانية، و كانت كلُّها رابحة!

تافيرنر: لم يكن ليونايدز يخطئ في أي شيء يفعله.

أبي: كانت فيه حاسة طبيعية، و سرعان ما أصبح وراء معظم مطاعم لندن الكبرى. ثم عمل في سوق التجهيزات الغذائية، و كان عمله فيها ضخماً حقاً.

تافيرنر: و كان ليونايدز وراء بعض التجارات الأخرى مثل الثياب البالية و محالّ الجواهر التقليدية و غيرها كير!.. و كان رجلاً غير أمين.

قال تافيرنر الجملة الأخيرة بعد هنيهة من التفكير، فسألته قائلاً:

- أكان محتالاً؟

- لا، كان فيه عِوجٌ و لكنْ لم يكن محتالاً، و هو – و إن لم يخرج عن القانون – إلاّ أنه كان يفكر بأي أسلوب للالتفاف عليه. لقد جنى أرباحاً كبيرة بهذه الطريقة، و حتى في الحرب الأخيرة رغم أنه كان أثناءها طاعنا في السن. لم يفعل شيئا غير قانوني، لكنه كان إذا شرع في عمل يلتمس له في القانون مخرجاً ثم يكون قد انتقل إلى عمل غيره! أرجو أن تكون قد فهمت ما أعنيه.

قلت:

- إنه لا يبدو شخصية جذابة.

- من الغريب إنه كان جذاباً قوي الشخصية حتى أنك لتشعر بذلك من لمحة واحدة. و إذا نظرت إليه لم تَرَ ما يثير إعجابك، كان قزماً قبيحاً لكنه كان ساحر، فما أكثر النساء اللائي أحببْنه!
قال أبي: لقد تزوج زواجاً يصدم السامع، تزوج ابنة إقطاعي في الريف صاحب اراضٍ لتربية الثعالب.
رفعتُ حاجبيّ من الدهشة و قلت:

- المال!؟

هز العجوز رأسه و قال:

- لا، كان زواج حب. لقيَتْخ الفتاة لتبحث معه شأن بعض التجهيز الغذائي في حفل زفاف صديقة لها فوقعت في حبه. و سخِط أبوها عليها لكنها ألحّتْ في الزواج منه. لقد قلت لك بأن للرجل سحراً عجيباً جذبها، و يبدو أنها كانت قد سئمت من الرجال التقليديين حولها.

- و هل كان زواجهما سعيداً؟

- كان سعيداً جدا. و رغم أن أصدقاءهما المحترمين لم يخالطوهما فإن ذلك لم يكن يقلقهما، و عاشا من غير أصدقاء. و بنى زوجها بيتاً تنكره الطبيعة و العقل في سوينلي دين، و سكنا هناك و أنجبت هي ثمانية أطفال. كان العجوز لينايدز ذكيا حين اختار سوينلي دين؛ لأنها كانت في بداية التحول إلى متطقة نموذجية راقية، فلم يكن فيها – بعدُ – ملعبا الغولف الثاني و الثالث.

و كان حولهما جماعة من السكان القدامى الذي كانوا يحبون حدائقهم كثيراً، أحبوا جارتهم السيدة ليونايدز، و أحبوا رجال المدينة الأغنياء الذين أتوا ليعيشوا جوار السيد ليونايدز.

أعتقد أنهم كانوا سُعداء تماماً حتى ماتت السيدة في عام 1905 بمرض ذات الرئة!

- و هل تركته مع ثمانية أطفال؟

- أحدهم مات طفلاً و اثنان قُتلا في الحرب الأخيرة، و كان هناك ثلاث بنات إحداهن تزوجت و رحلت إلى أستراليا و ماتت هناك، و الثانية بقيت عانساً ثم صدمتها سيارة فماتت، و الثالثة ماتت قبل سنة أو اثنتين. و ما زال من أبنائه اثنان على قيد الحياة: روجر، الولد الأكبر، تزوج و لم ينجب أطفالاً، و فيليب الذي تزوج ممثلة شهيرة فأنجبت له ثلاثة أطفال: صاحبتك صوفيا، و يُوسْتيس، و جوزفين.

- و هل يعيشون جميعاً في.. ما اسم ذلك البيت؟ ثري غابلز؟

- أجل، لقد تدمر بيت روجر ليونايدز من القصف في أوب الحرب. أما فيليب و بناته فإنهم يعيشون هناك من عام 1937. و هناك الخالة العجوز أخت السيدة ليونايدز – الآنسة دي هافيلاند – التي كانت تشمئز من زوج أختها، لكنها عرفتْ أن من واجبها بعد موت أختها أن تقبل دعوة السيد ليونايدز لكي تعيش عنده و تربي الأطفال.

قال تافيرنر: إنها دائمة الحماس في عملها لكنها لا تغير رأيها في أحد من الناس، فهي تعارض ليونايدز و تنقد أسلوبه.

قلت:

- حسنا، يبدو إنه بيت مليء تماماً! فمن تظنه القاتل؟

هز تافيرنر رأسه و قال:

- الوقت ما يزال مبكرا لقول ذلك.

قلت:

- ماذا دهاك يا تافيرنر؟ أنا واثق بأنك تعلم القاتل، تحدث بحرية فنحن لسنا في محكمة يا رجل!

تجهّم تافيرنر و قال:

- لا، و ربما لا تنعقد المحكمة أبداً.

- هل تقصد أنه ربما لا يكون قد قُتل؟

- بل قُتل بلا شك، تسمم، لكن إثبات الدليل في أحوال التسمم هذه يتطلب براعة شديدة، قدتشير جميع الوجوه إلى اتجاه واحد. إنها قضية واضحة، جريمة كاملة، لكني في حيرة، إنها جريمة متقنة جداً!

نظرت إلى العجوز مستغيثاً، فقال بطء:

- أنت تعلم يا تشارلز أن الحل الواضح في قضايا القتل يكون غالبا هو الحل الصحيح. لقد تزوج العجوز ليونايدز مرة ثانية قبل عشر سنين.

- و هو في السابعة و السبعين؟

- أجل، تزوج فتاة في الرابعة و العشرين!

صفَرتُ مندهشاً:

- و من هي؟

- فتاة كانت تعمل في مقهى، محتشمة و حسناء، لكنها ضعيفة و مهمِلة.

- أتكون هي قتلتْه؟

و خاطبني تافيرنر:

- إنني أسألك أنت يا سيدي، فالفتاة قد بلغت الرابعة و الثلاثين، و هذه سنّ خطرة. و هي فتاة تحب العيش الهاديء، و في البيت شابّ غريب يعلّم الأطفال، و هو لم يذهب إلى الحرب لمرضٍ أصاب قلبه، و كانت علاقتهما معاً علاقة حميمة.

نظرت إليه متأملاً، كان ذلك نموذجاً قديماً و مألوفاً: تلك العائلة المتباينة الأفراد، و معها السيدة ليونايدز الثانية التي كانت – حسب كلام أبي – امرأة جديرة بالاحترام، و لكن لا يجدر أن ننسى أن الكثير من الجرائم ارتكبت دوما مستترةً بثوب الاحترام.

و سألت تافيرنر:

- و ماذا كان ذلك السم؟ أهو الزرنيخ؟

- لم يأتينا – بعدُ – تقرير المختبر، لكن الطبيب يظن أنه سُمّ الإيسيرين.

- هذا مُستغرَب قليلاً، أليس كذلك؟ من السهل حتما كشف المشتري.

- كان دواءيتداوى به... لقد كان قطرة عين.

قال أبي: كان ليونايدز مصاباً بالسكري، و كان يأخذ حقناً دوريّة من الأنسولين. كان الأنسولين في قنانيّ صغيرة أغطيتها من المطاط، فيوخز الغطاء بإبرة الحقن ثم تسحب الحقنة و فيها الأنسولين.

قلت مستنتجاً:

- و لم يكن الذي في الزجاجة الأنسولين، بل اٌيسيرين، أليس كذلك؟

- تماماً.

- و من الذي حقنه الإبرة؟

زوجته.

لقد فهمت الآن ماذا كانت تقصد صوفيا بقولها:((ذلك الشخص)). و سألته:

- و كيف كانت العائلة مع السيدة ليونايدز الثانية؟

- لم تكن جيدة، و نادراً ما تبدلوا الحديث مع بعضهم.

كان كل شيء يتضح أكثر فأكثر، لكن كان واضحا أن المفتش تافيرنر لم يكن سعيداً بذلك. فسألته:

- لا يبدو أنك مقتنع تماما بهذه الفرضية؟

- لو أنها فعلت ذلك يا تشارلز لكان سهلاً عليها أن تستبدل بالقنّينة قنينة أنسولين حقيقية بعد ذلك، لا أستطيع أن أفهم لِمَ لمْ تفعل ذلك؟

- و هل في البيت كثير من الأنسولين؟

- أجل، قنانٍ ملأى و أخرى فارغة، و لو أنها فعلته لما استطاع الطبيب كشفه قطّ، لأن جسم الإنسان إذا تسمم بالإيسيرين فمات لا يُعرف في الأعراض التي تظهر على الجثة إلا قليلاً جداً. أما الذي حصل هنا فهو أن الطبيب قد فحص زجاجة الأنسولين فعرف فوراً أن الذي فيها لم يكن أنسوليناً.

قلت متأملاً:

- إذن فإما أن تكون السيدة ليونايدز غبية جداً و إما أن تكون ذكية جداً.

- أنت تقصد..

- ربما راهنت على استنتاج ستصلون إليه بأن أحداً لا يمكن أن يكون بالغباء الذي يبدو لكي يرتكب عملاً كهذا. على أية حال، هل هناك مشبوهون آخرون!

- كل من في البيت مشبوهون جميعاً، و قد كان فيه مخزون كبير من الأنسولين يكفي أسبوعين، فربما عبثتْ يدٌ بإحدى القوارير و تم وضعها لكي تستعمل في الوقت المقرر.

- و هل يستطيع كل منهم أن يصل إليها؟

- أجل، فلم تكن في خزانة مقفلة، بل كانت تحفظ على رف خزانة الأدوية في الحمام، و كل ساكن في البيت يأتي و يذهب إليه بحرية.

- و ماذا يدفعهم لقتله؟

تنهد أبي و قال:

- يا عزيزي تشارلز، كان أريستايد ليونايدز غنياً جداً، صحيح أنه خصّص مالاً كثيراً لعائلته، و لكن لعل أحدهم أراد المزيد.

- لا يوجد أحدٌ يريد أن يكون نصيبه أكبر من الجميع أكثر من تلك الأرملة، هل كان صديقها ذا مال؟

- بل فقيرا مثل فأر الكنيسة!

و فجأة لمعت في ذهني بعض الأفكار. تذكرت عبارة صوفيا المقتيسة، و تذكرت فجأة أبيات نشيدنا في الحضانة:

((رجلٌ ملتوٍ مشى مسافة ميلٍ ملتوٍ فوجد قطعة شِلْنٍ ملتوية عند باب ملتوٍ و قطّه الملتوي أمسك بفأرٍ ملتوٍ، و عاشوا جميعاً معاً في بيتٍ صغيرٍ ملتوٍ)).

قلت أخاطب تافيرنر:

- كيف وجدت السيدوليونايدز و ما رأيك فيها؟

ردّ بطء:

- إنها ليست سهلة، هادئة جداً قلا تعرف ما تفكر فيه لكنها تحب العيش الهاديء، أقسم إنني لعلى حق في هذا. إنها تذكرني بقطة، قطة كسولة كبيرة تهرهر، و هذا لا يعني أنني أكره القطط، إنها جميلة! – و تنهد - .. إننا نسعى وراء الدليل.

أجل، كنا جميعاً نريد دليلاً على أن السيدة ليونايدز قد سممت زوجها. صوفيا كانت تريده، و تافيرنر رئيس المفتشين، و كذلك أنا، و كل شيء سيكون حسنا بعد ذلك.

لكن صوفيا لم تكن متأكدة، و أنا لست متأكداً، و رئيس المفتشين مثلنا!

*****




- 4 -
ذهبت في اليوم التالي إلى منزل ثري غابِلْز مع تافيرنر. كان موقفي غريباً و غير تقليدي أبداً، لكن العجوز لم يكن تقليدياً بتاتاً.

و كانت لي مكانة، فقد عملت في الشهبة الخاصة في سكوتلانديارد في أيام الحرب الأولى، و عملي ذاك قد بوأني مكانة رسمية إلى حدّ ما، و إن كانت مهمتي الآن مختلفة تماماً. و قال أبي:

- إذا أردنا حل هذه القضية فينبغي أن نحصل على معلومات داخلية، يجب أن نحيط بالناس الذين يعيشون في ذلك البيت، علينا أن نعرفهم من الداخل لا الخارج. أنت وحدك الذي تستطيع فعل ذلك.

لم أكن أحب ذلك. ألقيت عقب لفافة التبغ في المنفضة و أنا أقول:

- و هل أنا جاسوس للشرطة؟ هل عليّ أن أجلب معلومات داخلية من صوفيا التي أحبها و تحبني و تثق بي؟

انفعل العجوز كثيرا و قال محتداً:

- أرجوك لا تنظر للأمر هكذا. أولاً: هل تظن أن فتاتك الشابة قد قتلت جدها؟

- كلا، هذه فكرة سخيفة دون شك.

- حسناً، و نحن لا نظن ذلك أيضاً؛ لأن صوفيا كانت في الخارج بضع سنين، و كانت على علاقة ودية معه دائماً، و كانت تتقاضى راتباً سخياً منه، و لا شك أن خطوبتها كانت ستسره. إننا لا نشتبه فيها، لكني أريدك أن تعلم شيئا واحداً: إذا لم يتم حل هذه القضية فلن تتزوجك الفتاة، إنني متأكد مما أقول بسب ما أخبرتني به، و هذه جريمة لعلها لا تحلّ أبداً.

ربما نكون – يا تشارلز – متأكدين أن الزوجة و صديقها الشاب تعاونا على هذا العمل لكنّ إثباته مسألة أخرى. و ليس بين أيدينا حتى الآن قضية بيّنة نرفعها إلى المدعي العام، و ما لم نحصل على دليل قطعي يدينهما فسيبقى هناك شك بغيض دائم، هل تفهم؟

- أجل، لقد فهمت.

- لم لا تلجأ إليها؟

- هل تقد أسأل صوفيا إن كنت..؟

ثم سكتُّ و ما زال العجوز يوميء برأسه بقوة:

- نعم نعم. لا أقصد أن تتحيّل و تخادعها من غير أن تصارحها. انظر ماذا تقول.

و هكذا حدث، خرجت في اليوم التالي مع رئيس المفتشين تافيرنر و الرقيب التحري لامب إلى سوينلي دين.

انعطفنا إلى طريق ضيقة وراء ملعب الغولف عند واحدة من البوابات، و سرنا بالسيارة على طول طريق ملتوية غطت الأعشاب جنباتها، و انتهت هذه الطريق إلى كومة من الحصى عند باب البيت.
عجبت لذلك البيت، و أحسسن أنه مشوّه غريب التصميم، و لعلّي قد عرفت السبب، فالبيت كان على هيئة كوخ تضخّم بصورة غير هندسية، كأنك تنظر إليه من خلال عدسة مكبّرة: عوارضه الخشبية مائلة، و أخشابه مسّندة... كان بيتاً صغيراً أميل كأنه نما كما ينمو الفطر في الليل!

و لقد عرفت الفكرة. فكرة صاحب مطعم يوناني فيها شيء من الإنكليزية، كان يريد أن يجعله بيت رجل إنكليزي مبني بحجم القلعة! تُرى، ماذا كان رأي السيدة ليونايدز حين رأته أول مرة؟ أظن أنها لم تستشر و لم تَرَ مخطط البناء بل الأرجح أنها كانت مفاجأة من زوجها الغريب، لكني أظنها عاشت فيه راضية.

و قال المفتش تافيرنر:

- إنه يحير الناظر قليلاً، أليس كذلك؟ كأن العجوز رأى في البيت حين بناه شيئاً كبيراً على شكل ثلاثة بيوت منفصلة مع مطابخها، و جُهّز في الداخل بمثل الفنادق الفخمة.

و جاءت صوفيا من الباب الأمامي حاسرة الرأس تلبس قميصا أخضر و تنورة من الصوف الخشن، فوجئت من رؤيتي و صاحت:

- أنت؟

- لقد جئت لأتحدث معك يا صوفيا، أين يمكننا أن نذهب؟

اعتقدت في البادية أنها سترفض، لكنها التفتت و قالت:

- من هذه الطريق.

- سرنا فوق المرجة، كان المنظر رائعاً عبر ملعب الغولف في سوينلي دين، حيث كانت تبدو في الاتجاه المقابل مجموعة من أشجار الصنوبر فوق إحدى التلال، و الريف يمتد وراءها داكناً.

أخذتني صوفيا إلى حديقة صخرية، و جلسنا على مقعد خشبي بسيط غير مريح. قالت:

- حسناً؟

لم يكن صوتها مشجعاً. أخبرتُها عن دوري كلِّه و استمعتْ إليِّ بإصغاء شديد و كان وجهها يخبرك بما تفكر فيه، لكنها حين أتممت كلامي تنهدت عميقاً و قالت:

- إن أباك رجل ذكي جداً!

- الرجل العجوز له أهدافه، أظن أنها فكرة حقيرة، لكن...

قاطعتني قائلة: لا. ليست فكرة حقيرة على الإطلاق، بل هي الشيء الوحيد الذي قد يكون مفيداً. إن أباك يا تشارلز يعرف يقيناً ما يدور في دماغي، يعرفه أكثر مما تعرفه أنت.

و أطبقت كفيها بعنف يائس و قالت بحدّة:

- يجب أن أصل إلى الحقيقة. يجب أن أعرف!

- هل هذا بسبنا؟ لكن يا عزيزتي...

- ليس بسبنا فحسبُ يا تشارلز. يجب أن أعرف حتى يطمئن بالي. إنني لم أخبرك يا تشارلز الليلة الماضية، لكن الحقيقة هي.... إنني خائفة!

- خائفة؟

- نعم، خائفة، خائفة، خائفة. الشرطة يعتقدون، و والدك يعتقد، و أنت تعتقد، الجميع يعتقدون أن بريندا هي القاتلة.

- الاحتمالات...

- آه! إنها مجرد اختمالات. إنها ممكنة، لكن حين أقول:((من المحتمل أن بريندا فعلت ذلك)) فإنني أدرك تماما أن ذلك ما هو إلا أمنية أتمناها؛ لأنني في الحقيقة لا أعتقد ذلك.

قلت بطء:

- ألا تعتقيدن ذلك؟

- لا أدري، لقد سمعتَ عن الجريمة من الخارج كما أردتُ لك ذلك، و الآن سوف أريك إياها من الداخل. إنني – بساطة – لا أشعر أن بريندا تفعل شيئا يوقعهل في الخطر؛ لأنها تحرص على نفسها كثيراً.

- و ماذا عن هذا الشاب لورنس براون؟

- لورنس جبان كالأرنب، ليست لديه الشجاعة لفعل ذلك؟

- عجيب!

- الناس يفاجئون بعضهم كثيراً، أحياناً تظن بإنسان شيئا فيكون ظنك خاطئاً، ليس دائماً، أحياناً..

و هزتْ رأسها و قالت:

- بريندا كانت تتصرف دائماً تصرفات مناسبة للنساء: تحب الجلوس في البيت و أكل الحلوى و لبس الثياب الجميلة و المجوهرات، و كانت تقرأ الروايات الرخيصة و تذهب إلى السينما.
و من الغريب أن جدي كان في السابعة و الثمانين لكنها كانت تحبه، كانت فيه قوة مؤثرة تجعل المرأة تشعر كأنها ملكة في قصرها! و لعلّه أقنع بريندا أنها امرأة متميزة، فقد كان ذكيا في معاملة النساء طوال حياته.

و تركت مشكلة بريندا و رجعت إلى كلمة قالتها صوفيا أزعجتني. سألتها:

- لماذا قلت إنك خائفة؟

ارتعشت صوفيا قليلاً و ضغطت على يديها و قالت بصوت خافت:

- لأن هذه خقيقة يجب أن تفهمها يا تشارلز. نحن – كما ترى – عائلة غريبة جداً، و هناك الكثير من القسوة في داخلنا... أنواع كثيرة من القسوة.

لعلّها رأت عدم الفهم بادياً على وجهي و لكنها استمرت تتحدث بنشاط:

- سوف أحاول أن أوضح ما أعنيه. جدّي – مثلاَ – كان يحدثنا ذات مرة عن صباه في اليونان، و ذكر عرضاً و بدون أي اهتمام أنه طعن رجلين بسبب شجار حدث هناك بصورة طبيعية تماماً و نُسي هذا الحادث. و لكن بدا غريباً الحديث عنه هنا في إنكلترا بهذه الطريقة العرضية غير المبالية.

أومأت برأسي موافقاً و أكملت صوفيا:

- كان ذلك نوعاً من القسوة. ثم كانت جدتي التي أكطاد لا أتذكرها، لكني سمعت عنها كثيراً. أظن أنها كانت قاسية أيضاً، و لعل سبب قسوتها افتقارها إلى الحنكة.
كل هؤلاء الأجداد صائدي الثعالب و الجنرالات العجائز الذين كان القتل يسري في دمائهم، نفوسهم مليئة بالغرور و الاعتزاز بالنفس، و لم يكونوا يخافون تحمل المسؤولية في المسائل التي تتعلق بالحياة و الموت.

- أليس في ذلك بعض المبالغة؟

- بلى، أظن ذلك، و لكنني أخاف هذا النوع كثيراً، إنه معتدٌّ قاسي الفؤاد. ثم هناك والدتي. كانت ممثلة. إنني أحبها، لكنها مغرورة و غير واعية ترى الشيء حسب تأثيره فيها و لا يهمها تأثيره في الناس. إن هذا مخيف!
و هناك زوجة عمي روجر. اسمها كليمنسي. إنها عالمة باحثة تقوم بإعداد أبحاث هامة جداً، و هي قاسية القلب أيضاً اذت دم بارد عديمة الإحساس. أما عمي روجر فهو عكسها تماماً: لعله ألطف و أحب امرىءٍ في العالم، لكن فيه حدة بغيضة، إذا أصابه أمر جعل دمُه يغلي ثم لم يعرف ما يفعله! و هناك أبي...

و توقفت طويلاً، ثم قالت ببطء:

- أبي يضبط نفسه. لا تعلم فيم يفكر، و لا يُظهر أي انفعال على الإطلاق. ربما يكون ذلك نوعاً من الدفاع اللاواعي عن النفس ضد والدتي المنغمسة في العاطفة، لكن ذلك يضايقني قليلاً في بعض الأحيان.

- أنت يا طفلتي تثيرين نفسك من غير ضرورة. إن الذي نفهمه في النهاية هو أن كل شخص ربما كان قادراً على ارتكاب الجريمة.

- أجل، حتى أنا.

- ليس أنت!

- لا يا تشارلز، لا تسْتثْنِني، أعتقد أن بإمكاني أن أقتل شخصاً.. و لكن إنْ حدث ذلك فلابد أن يكون من أجل شيء يستحق.

و ضحكتُ. لم أملك ألاّ أضحك، و ابتسمت صوفيا و قالت:

- ربما كنت حمقاء، و لكن كان يجب علينا اكتشاف الحقيقة حول وفاة جدي، يجب علينا. ليتها كانت بريندا..!

أحسست فجأة بالأسف على بريندا ليونايدز.
*****




- 5 -
أقبلت علينا امرأة طويلة تمشي بخفة. كانت تلبس قبعة بالية، و تنورة لا شكل لها، و كنزة ثقيلة. و قالت صوفيا:

- إنها الخالة إيديث.

توقفت المرأة مرة أو مرتين لتنظر في أحواض الزهور، ثم جاءت إلينا فنهضتُ محيّياً.

- هذا هو تشارلز هيوارد يا خالتي – و التفتتْ إليّ – خالتي الآنسة دي هالفيلاند.

كانت إيديث دي هافيلاند امرأة في حدود السبعين من عمرها، شعرها رمادي غير مرتب، ذات نظرات خارقة لاذعة. قالت:

- كيف حالك؟ لقد سمعت عنك و علمت أنك عدت من الشرق. كيف حال أبيك؟

أجبتُها و قد تفاجأت:

- إنه بخير!

- أعرفه منذ كان صبياً، و أعرف أمه جيداً. أنت تشبهها. هل جئت لتساعدنا أم من أجل أمرٍ آخر؟

قلت متضايقاً:

- أرجو أن أساعدكم!

- لعل بعض المساعدة تنفعنا. إن المكان يعجّ بالشرطة الذين يراقبوننا من كل صوْب، و أنا لا أحب بعضاً منهم. لا ينبغي للولد الذي كان في مدرسة محترمة أن يعمل في الشرطة. لقد رأيت ابن مويرا كينول أمس يدير إشارة المرور في ماربل آرش... يجعلك تشعر كأنك في دوّامة!

و التفتت إلى صوفيا و قالت: إن الخادمة تسأل عنك يا صوفيا... السمك.

قالت صوفيا: يا إلهي! سوف أذهب و أتصل بالهاتف بخصوص ذلك.

أسرعتْ إلى البيت بخفة و تبعتها الآنسة دي هافيلاند ببطء، و سرتُ بجانبها. قالت:

- لا أعرف ماذا كنا سنفعل دون الخادمات؟ كل امرئ لديه خادمة عجوز. إنهن يغسلن و يكوين و يطبخن و يُنجزن الأعمال المنزلية... مخلصات. لقد اخترت هذه الخادمة بنفسي من سنين.

توقفتْ و اقتلعت نبتة من حوض زهور بقوة:

- نبتة كريهة، إنها اللبلاب، أسوأ نبتة: تلتف و تنعقد و لا نستطيع اقتلاعها بسهولة، فهي تمتد في الأرض.

و سحقتْ بعضاً من اللبلاب بقدمها ثم نظرت إلى البيت قائلة:
ما أسوأ هذا العمل يا تشارلز هيوارد! ما هو رأي الشرطة؟ أخشى أنني تعديتُ حدودي، يبدو أنه من الغريب الاعتقاد أن أريستايد قد تمسمم و مات! إنني لم أحبه قطّ، لكني لا أستطيع الاعتياد على فكرة موته. إن هذا يجعل البيت يبدو فارغاً!

و مضيتُ أصغي إلى إيديث دي هافيلاند و هي تروي ذكرياتها في البيت:
- لقد عشت دهراً طويلاً هنا، أكثر من أربعين عاماً. جئت إلى هذا البيت عندما توفيت أختي. هو طلب مني ذلك.. سبعة أطفال أصغرهم له سنة واحدة فكيف أتركهم للمربية؟ كان زواجهما مستحيلاً. كنت أشعر أن مارسيا قد سُحرتْ به: أجنبي قبيح و قزم خسيس! أعترف أنه أطلق يدي في البيت في إحضار المربيات و الخادمات و شؤون المدارس.

همستُ: و هل عشت هنا منذ ذلك الوقت؟

- أجل.. أمر عجيب! كنت أستطيع أن أغادر البيت عندما كبر الأطفال و تزوجوا. كنت مهتمة بالحديقة ثم كان هناك فيليب. لو أن رجلاً تزوج ممثلة فلا يمكنه أن يتوقع أن يحيا حياة عائلية. لماذا تنجب الممثلة أطفالاً؟ فحالما يلدن أطفالهن يسرعن إلى التمثيل في مسرح ريبَرْتوري في إيدَنبرغ أو أي مكا بعيد آخر. لقد أحسن فيليب عندما جاء إلى هنا... مع كتبه.

- و ماذا يفعل فيليب ليونايدز؟

- يؤلف الكتب. لا أعرف لماذا، فلا أحد يريد أن يقرأها، ليس فيها غير أخبار تاريخية مجردة لم نسمع بها، أليس كذلك؟

- بلى.

- كان عنده مال كثير. يجب على الناس أن يخالفوا نزواتهم و يكسبوا عيشهم.

- أليست هذه الكتب مربحة؟

- قطعاً لا. فيليب يستحق أن يكون مرجعا عظيما في عصور معينة، لكنه لم يكن مضظراً أن يجعل كتبه تدر عليه أرباحاً، فقد خصص له أريستايد ما يقارب مئة ألف جنيه! و من أجل أن يجنب أريستايد أبناءه ضرائب الإرث بعد موته جعل لكل واحد منهم نصيبه على حدة: روجر يدير مؤسسة للتجهيز الغذائي، و صوفيا تتلقى دخلاً كبيراً جداً، و أموال الأطفال تحت الوصاية.

- إذن فلا أحد يستفيد بشكل خاص من وفاته.

نظرت إلي نظرة غريبة.

- نعم، إنهم يستفيدون جميعاً، يأخذون مزيداً من المال كلهم، و لو أنهم طلبوه منه على أية حال لأعطاهم.

- هل عندك فركة عمن سممه يا آنسه دي هافيلاند؟

ردت بطريقة مميزة:

- لا. لقد أزعجني ذلك كثيراً. ليس جميلاً أن تفكّر أن شخصاً كهذا يتجول في البيت طليقاً. أظن أن الشرطة سوف يلصقون التهمة بالمسكينة بريندا.

- أليسوا على صواب في ظنهم هذا؟

- لا أدري. كانت تبدو لي دائماً شابة غبية تماماً مبتذلة... شابة عادية لا أظنها يمكن أن تضع له السم. لكن إذا تزوج رجل قريب من الثمانين فتاة في الرابعة و العشرين فلا شك أنها قبلت به من أجل المال. كنا نتوقع – حسب الأحداث – أن تصبح أرملة غنية في القريب العاجل، لكن أريستايد كان عجوزاً قوياً بصورة متميزة و لم يكن مرض السكريّ يؤثر على صحته، و ربما كان سيعيش عشرين عاماً أخرى! أعتقد أنها سئمت الانتظار.

قلت: في تلك الحالة...

قالت الآنسة دي هافيلاند بحدة:

- في تلك الحالة يكون الأمر طبيعيا. الأقاويل مزعجة طبعاً، لكنها – على أية حال – ليست من العائلة.

- أليس عندك أفكار أخرى؟

- و ما هي الأفكار الأخرى التي يمكن أن تكون عندي؟

تساءلت؟ كان عندي شك بأن هناك الكثير يدور في رأسها مما لا أعرفه و فكرت أن وراء غرورها و كلامها غير المترابط عقلاً يعمل بدهاء شديد، و قلت في نفسي: هل تكون الآنسة دي هافيلاند نفسها قد سممت أريستايد ليونايدز؟

لا تبدو الفكرة مستحيلة. و تذكرت كيف سحقت نبات البلاب بقدمها بقسوة تدل على الحقد.

و تذكرت كلمة قالتها صوفيا..((القسوة)). و اختلست نظرة إليها من طرف عيني. إنها تعطي سببا مقنعاً، لكن، ما الذي يبدو لإيديث دي هافيلاند سبباً مقنعاً؟

و للإجابة عن ذلك كان ينبغي أن أعرفها أكثر.

*****



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 8:34 pm

- 6-
انفتح الباب و دخلنا إلى قاعة رحبة على نحو مدهش فيها طقم من خشب البلوط الداكن و عليها نحاسيات برّاقة. و قالت إيديث:

- هذا جناح زوج أختي من البيت، و في الطابق الأرضي يعيش فيليب و ماجْدا.

دخلنا من جهة اليسار إلى غرفة استقبال كبيرة، حيطانها مدهونة بالأزرق الفاتح و أثاثها مغطى بقماش مطرز. و على الحيطان كانت صور و رسومات الممثلين و الراقصين و صوؤ من المسرحيات معلقة. و كانت فوق رف الموقد صورة لراقصي (الباليه)، و مزهريات كبيرة فيها زهور الأقحوان و القرنفل. و قالت إيديث أيضاً:

- أظنك تريد رؤية فيليب؟

هل كنت حقاً أريد لقاءه؟ لا أدري! كنت فقط أريد رؤية صوفيا، و هذا ما فعلته..

لقد ساهمتُ حقا في خطة الرجل العجوز، أبي، لكن صوفيا قد انسحبت الآن و لا بدّ أنها في مكان ما تتصل هاتفياً لتطلب السمك.

و لم أعرف كيف أبدأ العمل؟ هل أتقرب من فيليب ليونايدز كشاب يريدخطبة ابنته أم مجرد صديق عابر دخل البيت للزيارة أم كرجل مرتبط بالشرطة؟ لم تعطني الأنسة دي هافيلاند أي وقت لكي أفكر في سؤالها، الحقيقة أنه لم يكن سؤالاً بل كان إصراراً. قالت:

- سنذهب إلى المكتبة.

قادتني خارج غرفة الاستقبال عبر ممر طويل، ثم دخلنا من باب آخر. كانت غرفة فسيحة تملؤها الكتب، و لم تكن الكتب في الخزائنالتي وصلت حد السقف، بل كانت على الكراسيّ و الطاولات و حتى على الأرض. و مع ذلك لم تكن في حالة فوضى.

كانت الغرفة باردة كأن أحداً لم يدخلها، و كانت رائحة عفن الكتب العتيقة و شمع العسل تخرج منها. و بسرعة أدركت أن الغرفة تفتقر إلى رائحة التبغ، لم يكن فيليب مدخناً!

و عندما دخلنا نهض فيليب من وراء طاولته كان رجلاً طويلاً أنيقاً في حوالي الخمسين من عمره.

كان الناس يذكرون كثيراً قبح أريستايد ليونايدز، فتوقعت أن يكون ابنه قبيحاً مثله، و لم أكن مستعداً لرؤية رجل كامل الأوصاف: الأنف المستقيم، الخط المتصدع في فكه، الشعر الأشقر الذي خطه الشيب و المصفف إلأى الخلف، و الجبهة الجميلة.

قالت إيديث:

- هذا تسارلز هيوارد يا فيليب.

- ها! كيف حالك؟

لا أدري إن كان فيليب قد سمع بي من قبل؟ فقد صافحني برود و لم يكن وجهه فضولياً، وقف دون اهتمام. و سألته إيديث:

- أين رجال الشرطة البغيضون؟ هل جاؤوا إلى هنا؟

- أظن أن رئيس المفتشين – و نظر في بطاقة على الطاولة – تافيرنر قادم ليتحدث معي في الحال.

- أين هو الآن؟

- لا أدري يا خالتي إيديث، أظن أنه بالطابق العلوي.

- مع بريندا؟

- لا أعرف.

عندما تنظر في وجه فيليب ليونايدز لن تصدق أن جريمة وقعت قريباً منه. سألته إيديث:

- أماتزال ماجدا فوق؟

- لا أعلم، في العادة لا تذهب هناك قبل الحادية عشرة.

قالت إيديث:

- هذا الصوت يشبه صوتها.

الصوت الذي كان يشبه صوت السيدة ماجدا كان صوتاً عالياً يتحدث بسرعة كبيرة و يقترب بسرعة. و انفتح الباب من خلفي بقوة و دخلت امرأة كأنها ثلاث نساء لا واحدة!

كانت تدخن لفافة في مِمْسك طويل، و تلبس ثوبا فضفاضاً طويلاً من الساتان قرنفلي اللون تمسك به بيد واحدة، و كان شعرها الغزير المتموج مسترسلا على ظهرها، وجهها بلا مساحيق كأنه لوحة زيتية، و عيناها زرقاوين جاحظتين، و كانت تتكلم بسرعة و ينطلق لسانها بصوت جذاب قوي و نظق واضح! قالت:

- حبيبي فيليب، لا أستطيع احتمال ذلك، ألم تفكر في البلاغات؟ إنها لم تظهر في الصحف بعد و لكنها ستنتشر حتما. و لا أعرف ماذا ألبس في التحقيق؟ لن ألبس ثوباً أسود، ربما ثوبا أرجوانياً. و لم يبقى عندي كوبونات، لقد أضعت عنوان ذاك الرجل البعيض الذي يبيعها لي! إن الموقف قريب من شارع شيفتْسْبوري، و لو ذهبت هناك بالسيارة فإن الشرطة سيتبعونني و ربما يسألونني أسئلة سمجة، أليس كذلك؟ ماذا أقول لهم؟ ألا نستطيع أن نترك هذا البيت الكريه الآن؟ حرية. حرية! آه! إنه عمل غير لطيف. العجوز المسكين! نحن لم نتركه يوماً حين كان حياً. و كان يحبنا رغم كل المشاكل التي حاولت أن تثيرها تلك المرأة في الطابق الأعلى! إنني متأكدة أننا لو ذهبنا و تركناه لها لقطع عنا كل شيء. لو لم تكن امرأة مرعبة فظيعة لما وقفتْ كل العائلة في وجهها حين دخلت حياته و هو على باب التسعين! فيليب، أظن أن الفرصة الآن رائعة لنؤدي مسرحية ((لإيديث تومبسون))، هذه الجريمة ستعطينا الكثير من الدعاية مقدماً. لقد قال بيلدين ستين أنه يستطيع أن يجعل هذه المسرحية الشعرية الحزينة عن عمال المناجم ناجحة في أي وقت. إنه دور رائع! أعرف أنهم يقولون أنني يجب أن أقوم دائما بالأدوار الهزلية بسب شكل أنفي، لكنك تعلم يا فيليب أن في مسرحية ((إيديث تومبسون)) كثيراً من المشاهد الكوميدية. لعل المؤلفة لم تدرك ذلك. الكوميديا تزيد عنصر التشويق. إنني أعلم كيف أقوم بهذا الدور مبتذلاً و سخيفاً و كاذباً من أوله إلى آخره، و من ثم...

و مدت ذراعيها، فسطقت اللفافة من الممسك على طاولة فيليب المصنوعة من الماهوغانيالمصقول و جعلت تحرقه، فأمسكها فيليب بهدوء و ألقاها في سلة المهملات.

همست ماجدا و قد استسعت عيناها فجأة و تشنج وجهها:
- ثم يأتي الرعب!

بقيت علامات الخوف الشديد بادية على وجهها قليلاً، ثم انبسط وجهها و تجعد، و أصبحتمثل طفلة متحيرة توشك أن تبكي. و فجأة زال كل الانفعالات و سألتني بنبرة رسمية و قد التفتت إلي:

- ألا تعتقد أن هذه هي طريقة عرض مسرحية ((إيديث تومبسون))؟

وافقتُها. في تلك اللحظة استطعت أن أتذكر بغموض شديد إيديث تومبسون، لكني كنت مهتماً أن أبدأ بداية جيدة مع والدة صوفيا. قالت ماجدا:

- إيديث تشبه بريندا، أليس كذلك؟ هل تعرف أنني لم أفكر بذلك أبداً. غنه مشوق جدا، هل يجب أن أوضح هذا للمفتش؟

قطب الرجل الجالس وراء المكتب حاجبيه قليلاً ثم قال:

- لا حاجة يا ماجدا أن تَريْه على الإطلاق. يمكنني أن أخبره بكل شيء يريد معرفته.

ارتفع صوتها: لا أراه؟ بل يجب أن أراه. إنك يا حبيبي ضيق الخيال لا تفهم أهمية التفاصيل. سوف يرغب في معرفة كيف و متى حدث كل شيء بالضبط و سائر التفاصيل الصغيرة التي رأيناها و تعجبنا منها آنذاك.

قالت صوفيا و هي تدخل من البياب المفتوح:

- أمي، لا نريدك أن تخبري المفتش كثيراً من الأكاذيب.

- صوفيا، حبيبتي!

- أعرف أنك قد أعددت كل شيء و أنك تهيأت لأداء دور جميل جداً، لعلك حفظتِهِ بطريقة خاظئة. خاطئة تماماً!

- هراء.. أنت لا تعرفين.

- إنني أعرف. يجب أن تمثلي هذا الدور على شكل مختلف تماماً: تكونين متحفظة قليلة الكلام، تكبحين جماح لسانك و تحرصين على حماية العائلة.

ظهرت على وجه ماجدا ليونايدز حيرة طفلة ساذجة. قالت:

- حبيبتي، هل تظنين حقاً..؟

- أجل، أظن ذلك، احترزي في الكلام، هذه هي الفكرة.

ابتسمت الأم بسمة رضى عندما أضافت صوفيا قائلة:

- لقد صنعت لك بعض الشُكُلاته، إنها في غرفة الاستقبال.

- ها! جيد! أكاد أموت جوعاً.

وقفت عند الباب و قالت:

- ما أجمل أن يكون لك ابنة!

و لم أدرِ هل كانت تخاطبني أم تخاطب رف الكتب الذي فوق رأسي؟ ثم خرجت من الغرفة، فقالت اآنسة دي هافيلاند تخاطب صوفيا:

- الله أعلم بما ستقول أمك للشرطة!

- ستكون على ما يرام.

- قد تقول شيئاً!

- لا تقلقي. ستؤدي الدور كما يريد المنتج، و أنا المنتج.

و خرجت صوفيا وراء أمها ثم التفتت لتقول:

- هاهو رئيس المفتشين جاء يراك يا أبي. لن تمانع أن يبقى تشارلز هنا، أليس كذلك؟

أظن أنني لمحت بعض الحيرة على وجه فيليب ليونايدز، ربما، لكنه همس بصوت غامض:

- أوه بالتأكيد... بالتأكيد.

دخل رئيس المفتشين تافيرنر و قد بدا الحزم على ملامحه، أما سلوكه فكأنه كان يقول:((سنتحمل بعض المكاره ثم نخرج من البيت و لا نعود أبداً، و لن يكون أحد أكثر سروراً مني بذلك.. أؤكد لك أننا لم نأت لنتسكع)).

لا أدري كيف فهمنا ما فعله من كلمة واحدة سوى أنه سحب كرسياً إلى الطاولة. و جلست غير متطفل بعيداً قليلاً. قال فيليب:

- نعم حضرة المفتش؟

قالت الآنسة دي هافيلاند فجأة:

- هل تريدني يا حضرة المفتش؟

- ليس الآن يا آنسة دي هافيلاند، ربما، من بعدُ، أتحدث معك قليلاً.

- بالطبع، سأكون في الطابق العلوي.

و خرجت دي هافيلاند و أغلقت الباب وراءها. و قال فيليب مرة ثانية:

- حسنا يا حضرة المفتش؟

- أعلم أنك رجل أعمال منشغل جداً و لا أريد أن أعوّقك كثيراً، لكن شكوكنا ربما تصير من بعدُ مؤكدة. إن أباك لم يمت ميتة طبيعية، بل مات من جرعة زائدة من مادة سامة: ((فايسوستجماين)) و هي معروفة عادة ((الإيسيرين)). هل يوحي لك هذا شيئاً؟

- و ماذا يوحي؟ إن رأيي أن أبي لابد قد أخذ السم دون قصد.

- هل تعتقد ذلك حقيقة سيد ليونايدز؟

- نعم، هذا يبدو لي ممكناً تماماً؛ لأنه كان قريبا من التسعين و بصره ضعيف!

- لذلك فرغ محتويات زجاجة قطرة العين في زجاجة الأنسولين. هل يبدو هذا اقتراحاً معقولاً يا سيد ليونايدز؟

لم يُجبه فيليب حتى أن وجهه أصبح خالياً من التعبير. و أ:مل التافيرنر:

- لقد وجدنا زجاجةو القطرة فارغة في سلة المهملات و ليس عليها بصمات، و هذا شيء غريب بحد ذاته، ففي الأحوال الطبيعية كان يجب أن يكون هناك بصمات أصابع، قد تكون بصمات أبيك أو بريندا أو الخادم...!

رفع فيليب بصره:

- الخادم؟ ماذا عن جونسون؟

- هل ترى أن جونسون هو المجرم؟ إن لديه فرصة بالتأكيد. لكن عندما نصل إلى الدافع يكون الأمر مختلفاً. كان من عادة أبيك أن يدفع لجونسون مكافأة كل عام، و في كل سنة كانت المكافأة تزيد؛ لأن جونسون يعلم أن تلك المكافآت هي بدل من نصيبه في الوصية. و الآن بعد سبع سنين، بلغت المكافأة من الخدمة مبلغاً كبيراً يأخذه كل عام و ما زالت تزيد. و من مصلحة جونسون أن يعيش أبوك طويلاً، كما أنهما كانا متحابّين كثيراً، و سجل جونسون من خدمته السابقة لا يرقى إليه الاتهام. إنه خادم ماهر جداً و مخلص! إننا لا نشل فيه.

- فهمت.

- و الآن يا سيدي، هل تعطيني وصفاً مفصلاً لتحركاتك في اليوم الذي حدثت فيه وفاة والدك.

- أجل يا حضرة المفتش: كنت هنا في هذه الغرفة طوال اليوم باستثناء أوقات وجبات الطعام.

- ألم تَرَ والدك على الإطلاق؟

- قلت له: ((صباح الخير)) بعد الإفطار، و هي عادتي.

- هل كنتما وحدكما عندئذ؟

- كانت... كانت زجة أبي في الغرفة.

- و هل كان طبيعياً كالعادة؟

أجاب فيليب بسخرية مبطنة:

- لم يظهر عليه أنه سيقتل ذلك اليوم.

- هل جناح أبيك منفصل تماماً عن هذا الجناح؟

- أجل، لا مدخل إليه إلا من باب القاعة.

- و باب القاعة هل يظل مغلقاً؟

- لا. لم أعلم أنه يغلق.

- هل يستطيع أي واحد أن ينتقل بحرية بين دلك الجناح و هذا؟

- أجل. لقد كان مفصولاً من أجل راحة أهل المنزل.

- كيف بلغك أول مرة نبأ موت أبيك؟

- أخي روجر هو الذي يسكن الجناح الغربي من الطابق الذي فوقنا جاء هرولة ليخبرني أن أبي قد انتابته نوبة مفاجئة، و قال أنه يتنفس بصعوبة و أنه يبدو مريضاً جداً...

- فماذا فعلت؟

- اتصلت بالطبيب، حيث بدا لي أن أحداً لم يفكر في استدعائه. و كان الطبيب خارجاً فتركت له بلاغاً لكي يأتي من فوره ثم صعدت إلى الطابق الأعلى..

- و بعدها؟

- أبي كان في حال خطيرة. لقد مات قبل أن يصل الطبيب!

لم يكن في صوته أي انفعال، كان بيانا بسيطا عن الحقيقة!

- أين كان بقية أفراد العائلة؟

- زوجتي كانت في لندن و عادت بعد موته بوقت قصير، و أظن أن صوفيا كانت غائبة هي الأخرى. أما يوستيس و جوزيفين فقد كانا في البيت.

- أرجو أن لا تخطئ فهمي يا سيد ليونايدز لو أنني سألتك: كيف يؤثر بالضبط موت أبيك في وضعك المالي؟

- أقدر تماماً أنك تريد الحقيقة. لقد جعلنا مستقلين مادياً منذ سنين عدة. فقد جعل أخي رئيساً و مساهماً في شركة لتجهيز الأغذية، و هي أكبر شركة له، و وضع إدارتها تحت يده.
و لقد خصص لي ما أعتبره مبلغاً مساوياً: مئة و خمسين ألف جنيه على شكل سندات مالي مختلفة، و كان بإمكاني أن أستثمر رأس المال كيف أشاء. كما خصص نصيباً كبيراً أيضاً لشقيقتيّ اللتين توفيتا بعد ذلك.

- و رغم ذلك ظل رجلاً غنياً جداً؟

ابتسم فيليب لأول مرة ابتسامة باهتة و قال:

- لا، فقد احتفظ لنفسه بدخل متواضع نسبياً لكنه بدأ بمشاريع جديدة فصار أغنى من ذي قبل!

- لقد جئت أنت و أخوك للعيش هنا. هل كان ذلك بسبب صعوبات مالية؟

- كلا بالتأكيد، بل من أجل الراحة. كان أبي يرحب بنا دائماً لنعيش عنده، و لأسباب مختلفة كنت أرغب هذا. كنت أحب أبي كثيراً. جئت هنا مع أسرتي عام 1937. لا أدفع أجرة لكني أدفع نسبة من الضريبة.

- و أخوك؟

- أخي جاء هنا هارباً من الغارة الجوية التي دمرت بيته عام 1943 في لندن.

- و الآن يا سيد ليونايدز، هل لديك أية فكرة عن محتويات وصية والدك؟

- فكرة واضحة جداً. لقد أعاد أبي كتابة وصيته عام 1946. لم يكن والدي كتوماً و كان يهتم بأفراد العائلة، فعقد احتماعاً خاصاً للأسرة حضره محاميه الذي شرح لنا بنود الوصية، و أظنم أنك اطلعت عليها فلاشك أن السيد جيتْسْكيل قد أبلغك بها.
لقد أوصى بمئة ألف جنيه خالية من الضرائب لزوجته ناهيك عن ((هبة الزواج)) السخية التي حصلت عليها. ثم جعل أملاكه ثلاث حصص: واحدة لي، و الثانية لأخي، و الثالثة تحت الوصاية لأحفاده الثلاثة. إن البيت كبير لكن ضريبة الإرث ستكون كبيرة.

- و هل أوصى بشيء للخدم أو المؤسسات الخيرية؟

- لا. إن الرواتب التي تدفع للخدم كانت تزاد سنويا ما داموا في الخدمة.

- هل أنت – و عذراً لسؤالي هذا يا سيد ليونايدز – في حاجة ماسّة للمال؟

- ضريبة الدخل – كما تعرف يا حضرة المفتش – كبيرة، لكن دخلي يكفي حاجتي و حاجة زوجتي أيضاً. أضِفْ إليه أن والدي كان دائم العطايا، و إذا طرأت لنا حاجة كان يسدّها فوراً! تأكدْ أنْ ليس عندي أي ضيق مالي يدفعني إلى الرغبة في موت أبي يا حضرة المفتش.

- أنا آسف جداً يا سيد ليونايدز لا أعني هذا لكنّ علينا أن نحصل على جميل الحقائق. أخشى أنه يجب أن أسألك بعض الأسئلة الحرجة... هل كان والدك و زوجته سعيدين معاً؟

- حسب ظني كانا سعيدين تماماً.

- ألم تحدث بينهما مشاجرات أو خلافات؟

- لا أظن ذلك.

- ألم يكن بينهما فرْق كبير في السن؟

- بلى.

- اسمح لي: هل وافقت على زواج أبيك الثاني؟

- لم يطلب موافقتي على ذلك.

- هذا ليس جوابا يا سيدي.

- مادمت تصر فإنني أقول أن زواجه كان عملاً غير حكيم.

- و هل تنازعت معه من أجل ذلك؟

- عندما سمعت به كان الزواج تمّ و انقضى الأمر!

- هل صدمك الخبر؟

لم يُجبْه فيليب.

- هل غضبت من زواجه؟

- كان والدي حراً يفعل ما يشاء.

- كيف كانت علاقتك مع السيدة ليونايدز؟

- عادية.

- هل أنت على علاقة ودية معها؟

- إننا لا نكاد نلتقي.

غير تافيرنر موضوعه:

- هلا أخبرتني بشيء عن السيد لورنس براون؟

- أخشى أنني لا أستطيع! والدي هو الذي وظفه.

- لكنه كان يعلّم أطفالك أنت يا سيد ليونايدز.

- صحيح. كان ابني مصاباً بشلل الأطفال إصابة بسيطة و قد نصح الأطباء ألا نرسله إلى مدرسة حكومية، فأشار أبي أن نعيت له معلماً يعلمه هو و ابنتي الصغيرة جوزيفين، و كان الخيار في ذلك الوقت محدوداً؛لأن المعلم كان يجب ألاّ يكون مطلوباً للخدمة العسكرية آنذاك. كانت أوراق هذا الشاب مرْضية، و كان أبي و خالتي التي تعتني بالأطفال راضييْن عنه فأذعنت لهما، و أنا لم أجد عيبا في طريقة تعليمه، فقد كان مخلصا و يفي بالمطلوب.
- كان يسكن في جناح أبيك و ليس هنا، أليس كذلك؟

- في الطابق العلوي غرف كثيرة.

- أرجو ألا يسوؤك هذا السؤال: هل لاحظت ما يدل على علاقة غرامٍ بين لورانس براون و زوجة أبيك؟

- لم تتهيأ لي فرصة حتى ألاحظ شيئاً مثل هذا.

- ألم تسمع كلاماً أو ثرثرة في هذا الأمر؟

- أنا لا أصغي إلى الثرثرة يا حضرة المفتش.

- هذا جدير بالإكبار! إذن فأنت لم تسمع سوءاً و لم تر سوءاً و لا تريد أن تنطق بسوء، أليس كذلك؟

- إن كنت تريد أن تفهمها كطذلك، فلك ما تريد يا حضرة المفتش.

نهض تافيرنر و قال:

- حسناً، شكراً لك يا سيد ليونايدز.

و تبعته دون فضول خارج الغرفة فسمعته يقول:

- إنه رجل فاتر.

*****




- 7 -
قال تافيرنر:

- و الآن سنذهب لنتحدث مع السيدة فيليب. اسمها الفنّي هو ((ماجدا ويست)).

- و هل تفيدنا؟ أعرف اسمها، و لقد رأيتها في مسرحيات عدة لكن لا أذكر متى و أين؟

- إنها واحدة من فؤقة ((الأعمال الناجحة))، مثلتْ دور البطولة مرة أو مرتين في غربي إنكلترا، و قد نجحت و اشتهرت في المسارح الثقافية الرفيعة و أندية الأحد. أظن أنها لم تكن تعتمد على المسرح في كسب الرزق. كانت تستطيع أن تختار المسرحية التي تعجبها و تذهب حيث تشاء، و من وقت لآخر كانت تدفع المال من أجل عرضٍ فيه دور أحبته، و لم تكن ترضى بأي دور. النتيجة أنها تراجعت قليلاً إلى مرتبة الهواة أكثر من كونها ممثلة محترفة! إنها ممثلة جيدة لا سيما في الكوميديا لكن المخرجين لا يحونها كثيراً، يزعمون أنها لا تلتزم بالقيود و تثير المتاعب و المشاجرات و تستمتع بإثارة المنزعات بين الناس. لا أعرف مدى صحة هذا، لكنها غير محبوبة من قبل زملائها الفنانين.

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال و قالت:

- والدتي هنا يا حضرة المفتش.

تبعتُ تافيرنر إلى غرفة الاستقبال الكبيرة. في البداية لم أستط معرفة المرأة التي جلست على الأريكة المطرزة. كان شعرها يرتفع عالياً فوق رأسها بتسريحة من العهد الإدواردي، و كانت تلبس معطفاً أخضر أنيقاً و تنورة و قميصاً بنفسجياً باهت اللون مثبتاً عند الرقبة بدبوس صغير من الحجر الكريم.

أدركت لأول مرة سحر أنفها المائل الذي ذكّرني بأثين سيلر، و لم أصدق أن هذه المرأة كانت هي ذات المرأة العنيفة في الثوب المخملي الفضفاض! قالت:

- المفتش تافيرنر؟ هلا دخلت و جلست؟... هل تدخن؟ هذا عمل فظيع جداً! إنني أشعر الآن بالنفور من التدخين!

كان صوتها خافتاً و خالياً من العاطفة، صوت امرئٍ عازم على ضبط النفس مهما يكن الثمن، و قالت:

- أرجو أن تخبرني: هل أستطيع مساعدتك بشيء؟

- شكراً لك سيد ليونايدز: أين كنت يوم المأساة؟

- كنت قادمة في سيارتي من لندن حيث تناولت الغداء في ذلك اليوم في مطعم إيفي مع صديقة لي، ثم ذهبنا لنشاهد عرض أزياء و شربنا القهوة مع بعض الأصدقاء في بيركلي، و بعد ذلك انطلقتُ راجعة إلى البيت و حين وصلت رأيت كي شيء مضطرباً...

و ارتعش صوتها قليلاً و هي تقول: وجدت حماي قد أصابته نوبة فجأة... كان ميتاً!

- أكنت تحبين حماك؟

رفعت صوتها:

- كنت أحب...

ارتفع صوت ماجدا، و في تلك اللحظة مدّت صوفيا يدها بهدوء فعدّلت لوحة معلقة فوق الموقد، و في الحال انخفض صوت ماجدا:

- كنت أحبه كثيراً. كنا جميعاً كذلك.لقد كان طيباً جداً معنا!

- هل كانت علاقتك جيدة مع السيدة ليونايدز؟

- لم نكن نرى بريندا كثيراً.

- و لم كان ذلك؟

- لم تكن بيننا أشياء كثيرة مشتركة. مسكينة بريندا! لا بدّ أن حياتها كانت صعبة في بعض الأحيان.

مرة أخرى عبثتْ صوفيا باللوحة فوق الموقد.

- حقاً؟ و كيف؟

هزت ماجدا رأسها و ابتسمت بسمة حزينة قصيرة:

- آه! لا أدري.

- هل كانت السيدة بريندا سعيدة مع زوجها؟

- أظن ذلك.

- لأم تحدث بينهما مشاجرات؟

مرة أخرى هزت رأسها و هي تبتسم ابتسامة لطيفة:

- الحق أنني لا أعرف يا حضرة المفتش، فجناحهما من البيت منفصل عنا تماماً.

- ألم تكن هي على صداقة حميمة مع السيد لورنس براون؟

عبست ماجدا ليونايدز، فتحت عينيها تنظران إلى تافيرنر نظرة توبيخ، و قالت بوقار:

- ما كان ينبغي لك أن تسألني أسئلة كهذه. كانت بريندا محبوبة عندنا جميعاً، كانت امرأة لطيفة جداً!

- هل أنت راضية عن السيد براون؟

- إنه رجل هادئ لطيف، لكنك لا تحس بوجوده. أنا لم أره كثيراً!

- أأنت راضية عن تدريسه؟

- أظن ذلك، لا أعرف. و لكن كان فيليب يبدو راضياً.

جرّب تافيرنر أسلوب الصدمة:

- آسف لسؤالي هذا: هل كان هناك برأيك أي علاقة حب بين السيد براون و السيدة ليونايدز؟

نهضت ماجدا مثل سيدة من النبلاء و قالت:

- لم أرى أي دليل على شيء من هذا، و أحسب – يا حضرة المفتش – أنه ليس من حقك أن تسألني مثل هذا السؤال، فبريندا كانت زوجة حميّ.

استحسنت جوابها هذا. أما تافيرنر فقد وقف قائلاً:

- هل أستطيع أن أسأل الخدم هذا السؤال؟

لم تُجبْه ماجدا، فتابع: شكراً لك يا سيدة ليونايدز.

و خرج المفتش، فقالت صوفيا لأمها بحرارة:

- لقد أديت ذلك بشكل جميل يا حبيبتي.

فتلت ماجدا خصلة من الشعر وراء أذنها اليمنى و نظرت وجهها في المرآة. قالت:

- نعم... نعم. أعتقد أنني أديت عملي بالطريقة الصحيحة.

نظرت صوفيا إليّ و سألت:

- أما كان يجب أن تخرج وراء المفتش؟

- اسمعيب يا صوفيا، ما الذي ينبغي لي...؟

سكت لساني. لم أستطع سؤالها صراحة أمام أمها عن دوري الذي يجب أن أقوم به؛ لآن ماجدا لم تُبدِ – حتى الآن – أقل اهتمام بي. لعلي كنت في نظرها صحفياً أو مستشاراً عند ابنتها! ربما أكون صحفياً أو عيناً للشرطة أو حتى ناحوتياً، إذْ كل هذه الأشياء عند ماجدا واحدة؛ فالشرطي و الصحفي و الحانوتي كلهم عندها ((جمهور))! قالت ماجدا و هي تنظر إلى قدميها بسخط:

- هذا الحذاء تافه!

استجبتُ لحركة متعجرفة من صوفيا و أسرعتُ خارجاً وراء تافيرنر. لحقت به في الصالة الخارجية و هو يلج الباب إلى الدرج، قال:

- سأصعد لأرى الأخ الأكبر.

أوضحت له مشكلتي دون ضجة مستفسراً:

- أرجوك اسمعني يا تافيرنر! ماذا يفترض أن أكون؟

اندهش:

- ماذا يفترض أن تكون؟

- أجل، ماذا أفعل هنا، في هذا البيت؟ إن سألني أحدٌ فماذا أقول؟

فكر المفتش لحظة و قال:

- ها! فهمت... – و ابتسم –.. و هل سألك أحدٌ شيئاً؟

- لا.

- إذن فلِمَ لا تترك الأمر هكذا؟ لا تشرح أبداً. هذا أسلوب جيد، لا سيما في بيت مضطرب كهذا البيت: كل منهم شغلتْه مشاكله الخاصة و مخاوفه فلا أحسَبُه يفكر في أمرك. سوف يرضوْن بوجودك ما دمت تبدو واثقاً من نفسك. إن قول أي شيء خطأ عظيم ما دمت لا توجد ضرورة لذلك. و الآن هيا إلى الدرج، لا شيء مغلقاً هنا. أنت تفهم طبعاً أن هذه الأسئلة التي أسألها كلها هراء. إن الأسئلة عمن كان في البيت و من لم يكن غير هامة، أو: أين كانوا جميعاً في ذلك اليوم؟

- إذن فلماذا..؟؟

- لأنها فرصة لأنظر إليهم جميعاً فأكوّن انطباعاتي و أسمع ما يريدون قوله، ربما يعطيني أحدهم – بالمصادفة المخصة – مؤشراً مفيداً..

و صمت قليلاً ثم همس: أُقْسِمُ أن ماجدا ليونايدز يمكنها أن تكشف أشياء كثيرة لو أرادت ذلك.

- و هل تعتمد على كلامها هذا؟

- لا، لن يُعتمد عليه، لكن لعله يرشدنا إلى وجهةٍ ما في التحقيق! كل أحدٍ في هذا البيت الملعون له وسائله و فرصته. ما أسعى إليه هو الدافع.

عند رأس الدرج كان ثمة باب يسد الممر الأيمن و كان عليه مطرقة نحاسية. طرق المفتش البا كما ينبغي ففتحه رجل بدت في وجهه علامات الدهشة و المفاجأة. لا بد أنه كان يقف وراء الباب!

كان رجلاً عملاقاً لك كتفان قويان و شعر أسود جعد ووجهه قبيح إلى أبعد حدّ غير أنه وجه لطيف.

نظر إلينا ثم ردّ بصره بسرعة بتلك الطريقة المتحيرة ينظر بها الرجل الصادق الحييّ، و قال:

- تفضلا. نعم. أرجوكما! كنت أنوي الخروج لكن هذا لا يهم. تفضلا إلى غرفة الجلوس. سأنادي كليمنسي... ها! انت هنا يا حبيبتي؟ إنه رئيس المفتشين تافيرنر... هل عندنا تبغ؟ أرجوك انتظر لحظة.

اصطدم بِسُورٍ و قال مرتبكاً:

- أرجو المعذرة!

ثم خرج من الغرفة كالنحلة الطنانة التي تترك وراءها صمتاً!

كانت زوجته واقفة بجانب الشباك. أسرتني شخصيتها الجذابة و شدّت انتباهي الغرفة التي كنا نقف فيها. كانت الحيطان مصبوغة باللون الأبيض. الأبيض الحقيقي، غير العاجيّ و لا المائل إلى الصُّفرة، و لم يكن عليها من الصّور سوى واحدة فوق رف الموقد كانت عملاً هندسياً غير تقليدي: مثلثات رمادية داكنة و سفينة زرقاء!

كانت السيدة روجر تختلف عن السيدة فيليب تماماً. ماجدا ليونايدز قد تكون في دور ست نساء مختلفات، لكن كليمنسي ليونايدز – هو ما كنت متكأداً منه – لا يمكن أن تكون أبداً واحدة أخرى غير ذاتها: كليمنسي ليونايدز. كانت امرأة ذات شخصية حادة واضحة.

أظن أنها في الخمسين. شعرها رمادي قصير لكنه يزيد رأسها الصغير الجميل جمالاً! ووجهها رقيق يدل على الذكاء، و عيناها رماديتان تدلان على قوة غريبة حادة. و كانت تلبس ثوباً خمرياً من الصوف يناسب قوامها النحيف تماماً.

و شعرتُ فوراً أنها امرأة مذعورة؛ لأن مستوى المعيشة الذي تعيشه لم يكن ذلك الذي تعيشه امرأة عادية، و فهمت لماذا استخدمت صوفيا تعبير القسوة حين وصفتْها. ارتعشت قليلاً بسبب برودة الغرفة، و قالت كليمنسي بصوت هادء و لسان مهذب:

- اجلس من فضلك يا حضرة المفتس! هل عندك أخبار جديدة؟

- كان موته بسب الإيسيرين يا سيدة ليونايدز.

قالت متأملة:

- إذن فهذا يجعل الأمر جريمة قتل! ألا يمكن أن تكون حادثاً من أي نوع؟

- لا يا سيدتي.

- أرجو أن تكون لطيفاً مع زوجي يا حضرة المفتش، فهذا الأمر يؤثر فيه كثيراً. لقد كان يحب أباه كثيراً و هو مرهف الإحساس عاطفي إلى أبعد الحدود.

- هل كنتما على علاقة حسنة مع حماك يا سيدة ليونايدز؟

- نعم، علاقة حسنة تماماً. ثم أضافت بهدوء: و لكني لم أكن أحبّه كثيراً.

- لماذا؟

- لا تعجبني أهدافه في الحياة و لا أسلوبه في تحقيقها.

- و السيدة بريندا؟

- بريندا؟ لم أكن أراها كثيراً.

- هل تظنين أن من الممكن وجود علاقة بينها و بين السيد لورانس براون؟

تقصد علاقة حب؟ لا، لكني لم أكن أعلم شيئاً من ذلك.

بدا من صوتها أنها غير مهتمة.

رجع زوجها روجر مسرعاً بنفس حركته الطنانة المزعجة و قال:

- لقد تأخرت... مكالمة هاتفية. حسنا يا حضرة المفتش، ماذا هناك؟ حسنا، هل لديك أخبار؟ ما الذي سبب وفاة والدي؟

- كانت الوفاة بسبب التسمم بالإيسيرين.

- حقاً؟ يا إلهي! إذن لابد أنها تلك المرأة! لم تستطع الانتظار! لقد أخرجها من حياة الفقر، أهكذا جزاؤه؟ قتلته بدم بارد! يا إلهي! إن دمي يغلي عندما أفكر بهذا.

- هل لديك سبب محدّد يجعلك تعتقد ذلك؟

كان روجر يُراوح جيئة و ذهاباً و هو يشد شعره بيديه:

- سبب؟ لِمَ؟ من يمكنه أن يفعل ذلك غيرها؟ لم أكن أثق بها يوماً. لم أحبها ألبتة.لا أحد منا يحبها. لقد فزِعتُ أنا و فيليب حين دخل علينا والدي يوماً من الأيام و أخبرنا أنه تزوج! في مثل عمره؟ ذاك جنون... جنون! كان أبي رجلاً مدهشاً يعجبك يا حضرة المفتش. كان عقله مدبّراً كأنه في سن الأربعين. إن كل شيء أملِكُه هو من خيره و فضله. لقد فعل كل شيء من أجلي. لم يخذلني يوماً بل أنا الذي خذلته! إني كلّما ذكرتُ ذلك...!

و ألقى بنفسه على الكرسي بقوة، و جاءت إليه زوجته:

- كفى يا روجر! لا تجهد نفسك!

أمسك بيدها و قال:

- أعرف يا عزيزتي. أعرف، و لكن كيف أقعد هادئاً؟ كيف أتمالك نفسي؟

- يجب أن نبقى جميعاً هادئين. إن السيد المفتش يريد
مساعدتنا.

- هذا صحيح يا سيدة ليونايدز.

صاح روجر:

- هل تعلم ما أود أن أفعل؟ لو أنني أحنق تلك المرأة بيديّ كلتيهمـا! لقد ضنّتْ على ذلك العجوز بضع سنين من الحياة! يا ليتني أمسك بها!... – وقف روجر و هو يرتعش من الغيظ، و مدّ يديه المرتعشتين – أجل، كنت سألوي عنقها... ألوي عنقها.

زجرته كليمنسي:

- روجر!

نظر إليها خَجِلاً:

- آسف يا عزيزتي.

ثم التفت إلينـا قائلاً: أسف فعـلاً، لقد غلبتني مشاعري. إنني... اعذروني.

و خرج من الغرفة ثانية، و قالت زوجته في ابتسامة باهتة:

- الحقيقة أنه لا يستطيع أن يؤذي ذبابة!

قبِل تافيرنر كلمتها بأدب ثم شرع في أسئلته الروتينية.

- أين كنتما يوم مات السيد ليونايدز؟

- كان روجر في لندن في بوكْس هاوْس – و هو مركز شركة التجهيز الغذائي – ثم عاد في وقت مبكر من المساء و أمضى بعض الوقت مع أبيه، و هذه عادته. أنا كنت – كالعادة – في معهد لامبِرْت في شارع غورو حيث مكان عملي، و رجعتُ إلى البيت قبل السادسة.

- أرأيت حماك؟

- لا. كنت قد رأيته آخر مرة في اليوم الذي صبق وفاته و شربنا القهوة معه بعد العشاء.

- ألم تريْهِ يوم وفاته؟

- ذهبت – في الحقيقة – إلى جناحه من البيت لأن روجر حسِب أن ترك غليونه عند والده في غرفة نومه... غليون ثمين جداً، لكنني وجدته على طاولة الصالة هناك فلم أرغب أن أزعج العجوز. كان غالباًً ينام نوماً خفيفاً في حوالي السادسة.

- متى بلغك نبأ مرضه؟

- جاءت بريندا مسرعة. كان ذلك بعد السادسة و النصف بدقيقة أو اثنتين.

لم تكن هذه الأسئلة هامة كما علمت، لكني أدركت كيف يحرص المفتش تافيرنر أن يمعن النظر في المرأة التي كانت تجيب عن اسئلته.

سألها بعض الأسئلة عن طبيعة عملها في لندن فقالت أنه يتعلق بالتأثير الإشعاعي للتفجير النووي.

- إذن فأنت تعملين في حقل القنبلة الذرية، أليس كذلك؟

- عملي لا يمسّ القدرة التدميرية للقنبلة الذرية، فالمعهد ينفذ تجارب في التأثير العلاجي.

و عندما نهض تافيرنر أبدى رغبته في رؤية جناحهما الخاص من البيت فتفاجأت قليلاً لكنها أظهرت له استعدادها الكامل.

ذكرتني غرفة النوم بسريرها المزدوج ذي الأغطية البيضاء بالمستشفى أو بصومعة ديْرِ من الأديرة! أما الحمام فكان بسيطاً لا ترى فيه أي أداة رفاهية و لا مواد تجميل، و كان المطبخ خالياً من الأثاث نظيفاً و مجهزاً تجهيزاً جيداً بأدواتٍ من النوع العملي. ثم جئنا إلى باب فتحته كليمنسي قائلة:

- هذه غرفة زوجي الخاصة.

قال روجر:

- أدخلوا. تفضلوا.

أحسست بالطمأنينة... هاهو شيء من البساطة في مكان آخر من هذا البيت الأعوج الذي يثير في نفسي الكآبة.

كان في غرفته الشخصية مكتب كبير تبعثرت عليه الصحف و الغليونات القديمة و رماد التبغ، و كانت فيه كراسيّ كبيرة عتيقة. و السجّادُ العجمي يغطي البلاط، و على الحيطان صور باهتة لجماعات مدرسية و جماعة ((كالريكيت)) و الفصائل العسكرية، و رسومات بالألوان المائية للصحراء و المنارات و القوارب المبحرة و البحر و غروب الشمس. كانت غرفته صافية، غرفة رجل محب حنون و حلو المعشر.

كان روجر يصب لنا الليمون بطريقة غير بارعة من وجاجة و هو يُبعد الكتب و الصحف عن أحد الكراسي. قال:

- الغرفة فوضى! كنت أفرغ الغرفة و أتخلص من الصحف القديمة... قدم لنا الليمون ثم تابع كلامه ملتفتاُ إلى تافيرنر:

أرجو أن تسامحني... لقد فقد السيطرة على مشاعري.

و نظر حوله كأنه يشعر بالذنب، و لم تكن كليمنسي ليونايدز معنا في الغرفة ثم تابع.

- إنها رائعة، أعني زوجتي. رغم كل الذي جرى فهي رائعة! لا تدري كم أنا معجب بها! فقد عاشت وقتاً عصبياً مخيفاً قبل أن نتزوج أحب أن أخبرك عنه. لقد كان زوجها الأول رجلاً عظيماً – أقصد أنه ذو عقل عظيم – لكن جسمه كان ضعيفاً من مرض السل، و كان ينجز بحثاً قيماً في علم البلوريات، و كان راتبه قليلاً مع أنه كان متفوقاً في عمله. لكنه لم يستسلم، و قد كدحتْ من أجله فلم تجعله يعلم أن كان يموت، و لم تشتكِ بتاتاً و لم تتذمر، و كانت تبدو دائماً سعيدة!

ثم مات فحزنتْ عليه كثيراً، و أخيراً رضيتْ بالزواج مني، و كنت سعيداً جداً لأنني كنت قادراً أن أمنحها السعادة و الراحة. و قد رجوتها أن تترك العمل لكنها عرفت بالطبع أن العمل في الحرب كان واجباً عليها و ما تزال تشعر أنها يجب أن تستمر في عملها... زوجة رائعة! لقد كنت محظوظاً! كنت سافعل كل شيء من أجلها.

أجابه تافيرنر جواباً مناسباً ثم عاد إلى أسئلته السابقة من جديد:

متى بلغك أن أباك مريض؟

- أسرعت بريندا تناديني، قالت إن نوبة مرضية ما أصابت أبي، و كنت أجلس مع العجوز العزيز قبل ذلك بنصف ساعة فقط، و كان في صحة تامة! أسرعت إليه و كان يلهث و وجهه أزرق. نزلت مسرعاً إلى فيليب فاتصل بالطبيب. إنني... إننا لم نستطع أن نفعل شيئاً! لم أتخيل قطعاً و لا لحظة واحدة بأن هناك عملاً غريباً. غريب؟ هل قلت: غريب؟ يا إلهي يبا لها من كلمة استخدمتها.

و ببعض الصعوبة خلصنا أنفسنا أنا و تافيرنر من الجو العاطفي لغرفة روجر ليونايدز، و وجدنا أنفسنا خارج الباب مرة أخرى عند أول الدرج. قال تافيرنر:

- إنه مختلف تماماً عن أخيه... أشياء و غرف غريبة، هذا يخبرك كثيراً عمن يعيشون فيها.

- أجل.

- و غريبون هؤلاء الناس، و زواجهما غريب أيضاً أليس كذلك؟

لم أكن أعلم أكان يقصد كليمنسي و روجر أم فيليب و ماجدا؟ كانت كلماته تنطَبق على الزواجين لكن الزواجين كلاهما سعيد، كان زواج كليمنسي و روجر سعيداً حتماً. ثم سألني:

- هل يمكن أن يكون مجرما يضع السم؟ هل تقول عنه ذلك؟ لا أحسبه رجلاً خشناً. أما زوجته فالاحتمال لديها أكبر. إنها من صنف النساء عديمات الرحمة، و ربما كان بها مس من الجنون!

- لكني أظن أنها لن تقتل أحداً من الناس لمجرّد أن هدفه و أسلوب حياته غير مرضيين بالنسبة لها. ربما كانت تكره العجوز حقاً، و لكن هل تُرتكب جريمة بسب الكراهية الخالصة؟

- قليلاً جداً، و أنا لم أصادف حالة كهذه. لا. أظن أننا في حال أكثر أماناً لو اشتبهنا في السيدة بريندا، لكن أين الدليل؟

*****




- 8 -
فتحت الخادمة باب الجناح المقابل و أصابها الخوف حين رأت تافيرنر و إن كانت مسحة من الإزدراء ظاهرة عليها. قالت:

- لعلك تريد أن ترى السيدة؟

- نعم، من فضلك.

و تقدمتنا إلى غرفة الجلوس الكبيرة و خرجتْ.

كان أثاثها يشبه ذاك الموجود في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي: قماش الريتون ملوناً بألوان زاهية، و ستائر حريرية مخططة، و لوحة فوق رف الموقد لفتت انتباهي، ليس من اليد البارعة التي رسمتها فحسب، بل أيضا بسبب الوجه الآسر لصاحب الصورة.

كانت رسماً لرجل ضئيل. عيناه داكنتان خارقتان، على رأسه قلنسوة من المخمل الأسود، و قد التصق رأسه بكتفيه. لقد كانت حيوية الرجل و قوته تشعّ من اللوحة، و بدا أن العينين اللامعتين أذهلتاني! قال تافيرنر:

- هذا هو. رسمها أوغسطس جون. إن شخصيته قوية، أليس كذلك؟

- بلى.

و فهمتُ معنى قول إيديث دي هافيلاند إذ قالت أن البيت يبدو يدونه خالياً. ما اغرب هذا الرجل الصغير املنحني: الذي بنى البيت الصغير المائل، فلما غاب فَقَد البيت الصغير المائل معناه! قال تافيرنر:

- و تلك زوجته الأولى هناك. رسمها سارجِنت.

أمعنتُ النظر في الصورة المعلّقة على الحائط بين الشبّاكين. كان فيها وحشية ما مثل كثير من رسوم سارجنت، و قد رُسِم الوجه بشكل مبالَغ فيه فظهر كأنه وجه فرس. كانت رسمة لسيدة إنكليزية تقليدية من الريف لا من طبقة النبلاء، أنيقة لكنك لا تلمح فيها معنى الحياة، سيدة لم تكن تبتسم، بل كانت مستبدة قوية!

انفتح البا و دخل الرقيب لامب قائلاً:

- لقد عملت اللازم يا سيدي، استجوبت الخدم جميعاً و لكني لم أحصل على أي شيء.

تنهد تافيرنر في حين أخرج الرقبيب لامب دفتره من جيبه و رجع بعيداً ثم جلس. و انفتح الباب مرة أخرى و دخلت زوجة أريستايد ليونايدز الثانية.

كانت تلبس ثوبا أسوداً فاخراً ستر بدنها كله. كان وجهها معتدل الجمال، و شعرها بنياً جميلاً مصففاً بإتقان، و على صدرها عقد لآلئ كبيرة، و كان في إحدى يديها خاتم من الزمرد و في الأخرى خاتم كبير من الياقوت.

نظرت إلى وجهها المزيّن فعرفتُ أنها كانت تبكي، و لاحظت أنها خائفة. و خاطبها تافثيرنر بلطف:

- صباح الخير يا سيدة ليونايدز، إنني آسف لإزعاجك مرة أخرى.

قالت بصوت فاتر:

- يبدو أنك مضطر لذلك.

- إن كنت ترغبين في دعوة محاميك يا سيدتي فهذا يوافق النظام تماماً، أليس كذلك؟

تسائلت إن كانت قد فهمتْ مدلول هذه الكلمات؟ من الواضح إنها لم تفهم. عبست و قالت:

- لا أحب السيد جيتْسْكيل و لا أريده.

- يمكنك أن تحضري محامياً خاصاً لك يا سيدة ليونايدز.

- هل يجب علي ذلك؟ أنا لا أحب المحامين، إنهم مزعجون.

تبسم تافيرنر و قال:

- الأمر إليكِ، إذن فهل نواصل؟

أمسك الرقيب لامب بقلمه و جلست بريندا ليونايدز على الأريكة في مواجهة تافيرنر و سألته:

- هل وجدتم شيئاً.

لاحظت أن أصابعها كانت تعبث بعقدة في فستانها باضطراب.

- نقول جازمين بأن زوجك قد تسمم بالإيسيرين و مات.

- تقصد أن قطرة العين تلك قد قتلته؟

- من المؤكد أن السيد ليونايدز حين حُقن بتلك الإبرة الأخيرة تسمم؛ لأن ما فيها كان إيسيريناً لا أنسوليناً.

- لم أكن أعلم ذلك. لا علاقة لي بهذا يا حضرة المفتش! حقيقة لم تكن لي أي علاقة!

- إذن فلا بد من أن أحداً غيّر الأنسولين عمداً و عبأ الزجاجة بالقطرة.

- يا له من عمل شرير! هل تظن أن أحداً قد فعلها عمداً أم أنه قد أخطأ؟ لا ينبغي المزاح هنا، أليس كذلك؟

- لا نظن أنها كانت مزاحاً يا سيدتي.

- لعله أحد الخدم...

لم يرد تافيرنر عليها.

- لا بد... لا أرى شخصاً آخر يمكن أن يفعل ذلك.

- هل أنت متأكدة؟ فكري يا سيدة ليونايدز، أليس عندك فكرة تفسر ما حدث؟ ألم يكن في البيت مشاعر غير ودّية؟ مشاجرات؟ أحقاد؟

حدقت إليه بعينين واسعتين جريئين، ثم قالت:

- ليس عندي أية فكرة.

- هل قلت إنك كنت في السينما ذلك المساء؟

- نعم، عدت في الساعة السادسة و النصف، وقت إبرة الأنسولين. حقنته الإبرة بهدوء ثم أصابته حالة غريبة. ارتعبت. اسرعت إلى روجر...

و علا صوتها و جعلت تتكلم كأن الهستيريا أصابتها: لقد قلت لك كل هذا آنفاً، هل عليّ أن أعبد كل هذا مرة تلو الأخرى؟

- أسف يا سيدتي! و الآن هل أستطيع أن أكلم السيد براون؟

- لورانس؟ لماذا؟ إنه لا يعرف شيئاً في هذا الشأن.

- لكني أريد أن أكلمه.

حدقت فيه بارتياب:

- إنه يدرّس يوستيس اللغة اللاتينية في غرفة الدرس، أتريده أن يأتي هنا؟

- لا، سوف نذهب إليه.

خرج تافيرنر من الغرفة سريعاً و تبعته أنا و الرقيب. قال الرقيب لامب:

- لقد أرعبتها يا سيدي!

و صعدنا بضع درجات ثم سرنا في ممر و دخلنا غرفة كبيرة تُشرف على الحديقة و فيها طاولة. جلس وراء الطاولة شاب أشقر الشعر وسيم في الثلاثين من عمره، و فتى أسمر في السادسة عشرة.

دخلنا عليهما فرفعا بصرهما إلينا. يوستيس، أخو صوفيا، نظر إلي، و نظر لورانس براون إلى رئيس المفتشين نظرة خوف. لم أرَ في حياتي رجلاً مشلولاً من الخوف مثله! وقف ثم جلس مرة أخرى. قال بصوت كأنه صرير:

- أوه! صباح الخير يا حضرة المفتش.

كان تافيرنر فظاً:

- صباح الخير. هل أستطيع التحدث إليك؟

- نعم، بالطبع، يسرني ذلك.

نهض يوستيس و قال بمرح:

- هل أمضي أنا يا حضرة المفتش؟

قال المعلم:

- سوف... سوف نواصل دروسنا فيما بعد.

خرج يوستيس مختالاً و عندما وصل البا وقعت عينيه عليّ فتبسم ثم أغلق البا وراءه. قال تافيرنر:

- حسنا يا سيد براون. إن بيان المختبر جازم تماماً: الإيسيرين هو ما قتل السيد ليونايدز.

- إنني... هل تقصد... أن السيد ليونايدز قد تسمم؟ كنت آمل...

قال المفتش بغلظة:

- لقد سُمِّم. شخص ما استبدل بالأنسولين قطرة الإيسيرين اللعين.

- لا أصدق. لا أصدق!

- من الذي أقدم على فعل ذلك؟

صرخ الشاب:

- لا أحد. لا أحد بتاتاً.

- هل تريد حضور محاميك؟

- ليس لي محامٍ... لا أريد محامياً. لا شيء عندي أخفيه... لا شيء!

- ألا تعلم أن أقوالك تُدوّن؟

- أنا بريء، أقسم إنني لبرئ!

- لم أقل بأنك مجرم.

سكت تافيرنر قليلاً ثم أضاف قائلاً:

- كانت السيدة ليونايدز أصغر من زوجها بستة عقود، أليس كذلك؟

- أظن ذلك... أقصد: نعم، هذا صحيح.

- لا بد أنها كانت تضجر من الوحدة أحياناً؟

ظل لورانس صامتاً و لم يُجبه، فقط مرّر لسانه على شفتيها الجافتين.

- إن وجود رفيق لها أصغر منها أو أكبر قليلاً يعيش هنا كان أمراً مناسباً، أليس كذلك؟

- إنني... لا، إطلاقاً... أقصد: لا أدري!

- يبدو لي أنه من الطبيعي أن تنشأ بينكما علاقة.

احتج الشاب بعنف:

- كلا، لم يكن، لا شيء من ذلك. أعرف ما تفكر به، و لكنك واهم. كانت السيدة بريندا كريمة جداً معي و كنت أكنُّ احتراماً عظيماً لها، لا شيء أكثر من هذا. أؤكد لك ذلك، إنه أمر بشع أن تقول هذا! بشع! لم أقتل احداً، و لم أعبث بالزجاجات! إن مجرد فكرة القتل عندي كابوس رهيب. لو دخلتُ المحكمة فسوف يتفهّمون أن لدي دوافع دينية تمنعني أن أقترف القتل!
لقد كنت أشتغل في المستشفيات و كنت قبلها أذكي النار في مراجل القطارات و هو عمل شاق لم أتحملْه، لكن الجيش أذن لي بالتعليم. لقد بذلت ما بوسعي من أجل يوستيس و جوزفين الطفلة الذكية و الصعبة، و كان كل واحد لطيفاً معي إلى أبعد حد: السيد ليونايدز و زوجته و الآنسة دي هافيلاند! و الآن يقع هذا الأمر الرهيب و أنت تشك فيّ، فيّ أنا... أنني قتلته؟

حملق المفتش تافيرنر إليه باهتمام و قال:

- أنا لم أقل هذا.

- لكنك تفكر فيه. أعلم أنك تفكر فيه، و هم جميعاً يفكرون فيه. إنهم ينظرون إلي... إنني لا أستطيع مواصلة حديثي معك! إنني متعب و متوتر الأعصاب!

و ناطلق خارجاً من الغرفة. التفت تافيرنر إليّ:

- حسنا؟ ماذا ترى فيه؟

- لقد خاف كثيراً!

- نعم أعرف، لكن هل هو القاتل؟

قال الرقيب لامب:

- أتدري يا سيدي؟ إنني أراه جباناً لا يجرؤ على ذلك أبداً.

وافقة رئيس المفتشين:

- إنه لن يضرب أحد على رأسه و لن يطلق رصاصة من مسدس. لكن ما عساه أن يفعل في هذه الجريمة السهلة؟ يعبث بزجاجتين فحسب، يُعِين رجلاً عجوزاً على الخلاص من هذه الدنيا بطريقة غير مؤلمة نسبياً.

- القتل الرحيم يا سيدي!

- ثم بعد ذلك، ربما بعد زمنٍ، يكون الزواج من امرأة ترث مئة ألف جنيه معفاة من الضريبة و لديها مئة ألف أخرى و كومة كبيرة من الياقوت و الزمرد – و تنهد تافيرنر – لكن هذا كله ظنون و تخمين. لقد نجحتُ في ارهابه، و لكن هذا لا يثبت أي شيء؛ لأنه كان سيخاف حتى لو كان بريئاً. و على أية حال فأنا لا أجزم أنه فعل ذلك، أرى أن امرأة هي التي فعلتها، و لن لماذا لم تَرْمِ قنينة الأنسولين بعيداً أو تغسلْها؟

و التفت إلى الرقيب يخاطبه: ألا يوجد دليل من الخدم؟

- الخادمة زعمت أنهما كانا يحبان بعضهما.

- و ماذا جعلها تزعم هذا؟

- نظراته إليها و هي تصب القهوة له.

- هذا أمر لا تستند إليه محكمة، ألا توجد أحداث واقعية؟

- لم يلحظ أحد شيئاً من ذلك.

- لو كان بينهما شيء لرآه الخدم. أتدري؟ لقد بدأت أعتقد أنْ لا شيئ بينهما!

و نظر تافيرنر إليّ ثم قال: ارجِعْ إليها و تحدثْ معها، أريد أن أعرف انطباعك عنها.

ذهبت و أنا شبه كاره رغم أنني كنت متشوقاً لذلك.

*****




- 9 -
وجدت بريندا ليونايدز تجلس حيث تركناها، و لدى دخولي رفعت بصرها بحدة و سألتْ:

- أين المفتش تافيرنر؟ هل سيعود؟

- ليس بعد.

- من أنت؟

أخيراً سمعت السؤال الذي كنت أتوقعه طوال الصباح، و أجبتها بصراحة:

- أنا مرتبط بالشرطة، لكنني صديق للعائلة أيضاً.

- العائلة؟ إني أكرههم جمبعاً.

نظرت إليّ و فمها يتحرك و بدت عابسةً خائفةً و غاضبةً.

- كانوا دائماً يعاملونني بحقارة، منذ البداية. قالوا: لماذا أتزوج أباهم العزيز؟ و ماذا يهمهم من ذلك؟ لقد أعطاهم المال، لم تكن لديهم عقول لكي يجمعوا المال بأيديهم – و نظرت إليّ بجرأة - : لماذا لا يتزوج الرجل ثانية حتى لو كان كبيراً؟ إنه لم يكن طاعناً في السن، و قد أحببته كثيراً!

- فهمت. فهمت.

- لعلك لا تصدقني، لكنها الحقيقة. لقد سئمت الرجال. كنت أرجو بيتاً و عائلة و رجلاً يحنو علي و يقول قولاً جميلاً. أريستايد كان يؤنسني، و كان مرحاً، و ذكياً و كان يبتدع كل أسلوب حتى يجتنب كل هذه القوانين السخيفة! لقد فجعتُ بموته.

أسندت ظهرها إلى الأريكة و ابتسمت بسمة غريبة تدل على البلادة:

- كنت هنا سعيدة و آمنة، كنت أذهب إلى الخياطين المهرة الذين كنت أقرأ عنهم، و اريستايد قد أعطاني أشياء جميلة – و مدت يدها و هي تنظر إلى ياقوتة فيها – و كنت طيبة معه في المقابل.

رأيت يدها الممدودة كأنا مخلب القط، و سمعت صوتها الهادر، قالت و ما زالت تبتسم:

- ما العيب في ذلك؟ لقد كنت لطيفة معه و جعلته سعيداً!

و مالت إلى الأمام: هل تعلم كيف التقينا؟

و لم تنتظر جوابي:

- كان لقاؤنا في معطم شامروك. طلب بيضاً مقلياً على خبز توست، و عندما أحضرتُه له كنت أبكي. قال لي:((اجلسي، و أخبريني مالي يحزنك)) فقلت له:(( لا أستطيع محادثتك لأنهم سيفصلونني من العمل إن فعلت)) فقال:((لا، لن يفصلك أحد فأنا صاحب هذا المكان))! نظرت إليه. فكرت... إن الذي أمامي هو عجوز ضئيل الحجم غريب، لكن له شخصية جذابة!
و قصصت عليه الأمر كله! و أظنك ستسمع التفاصيل منهم ليقولوا لك بأنني سيئة، لكني لم أكن كذلك... لقد تربيت تربية حسنة، و كان لنا دكان رائع فيه أشغال و مطرزات. لم أكن يوماً من الفتيات اللاتي يتخذن أصحاباً من الشبان، أو يبيعن أنفسهن، لكن تيري كان مختلفاً... إيرلندي يسافر إلى ما وراء البحار، و لم يكن يكاتبني أبداً. كم كنت حمقاء!
و هكذا كان، وقعت في مشكلة تماماً مثل ما يصيب خادمة بائسة!... إريستايد كان رائعاً، وعدني أن أكون آمنة، قال إنه وحيد و أننا نستطيع أن نتزوج فوراً. و كان ذلك عندي كالحلم!
ثم عرفت أنه السيد ليونايدز العظيم الذي يمتلك أعداداً ضخمة من المحلات و المطعام و الأندية الليلية. كان ذلك مثل القصة الخيالية، أليس كذلك؟

قلت بتحفظ: نوع من القصص الخيالية.

- تزوجنا في كنيسة صغيرة في المدينة، ثم سافرنا للخارج. عاهدت نفسي أن أكون زوجة صالحة. كنت أطلب له كل أصناف تاطعام التي يشتهيها، و ألبس له الملابس التي يحبها، و أسعى دوماً إلى رضاه! و كان هو سعيداً. لكننا لم ننْجُ من عائلته، كانوا يأتون إليه فيعطيهم. العجوز دي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 8:35 pm

- 6-
انفتح الباب و دخلنا إلى قاعة رحبة على نحو مدهش فيها طقم من خشب البلوط الداكن و عليها نحاسيات برّاقة. و قالت إيديث:

- هذا جناح زوج أختي من البيت، و في الطابق الأرضي يعيش فيليب و ماجْدا.

دخلنا من جهة اليسار إلى غرفة استقبال كبيرة، حيطانها مدهونة بالأزرق الفاتح و أثاثها مغطى بقماش مطرز. و على الحيطان كانت صور و رسومات الممثلين و الراقصين و صوؤ من المسرحيات معلقة. و كانت فوق رف الموقد صورة لراقصي (الباليه)، و مزهريات كبيرة فيها زهور الأقحوان و القرنفل. و قالت إيديث أيضاً:

- أظنك تريد رؤية فيليب؟

هل كنت حقاً أريد لقاءه؟ لا أدري! كنت فقط أريد رؤية صوفيا، و هذا ما فعلته..

لقد ساهمتُ حقا في خطة الرجل العجوز، أبي، لكن صوفيا قد انسحبت الآن و لا بدّ أنها في مكان ما تتصل هاتفياً لتطلب السمك.

و لم أعرف كيف أبدأ العمل؟ هل أتقرب من فيليب ليونايدز كشاب يريدخطبة ابنته أم مجرد صديق عابر دخل البيت للزيارة أم كرجل مرتبط بالشرطة؟ لم تعطني الأنسة دي هافيلاند أي وقت لكي أفكر في سؤالها، الحقيقة أنه لم يكن سؤالاً بل كان إصراراً. قالت:

- سنذهب إلى المكتبة.

قادتني خارج غرفة الاستقبال عبر ممر طويل، ثم دخلنا من باب آخر. كانت غرفة فسيحة تملؤها الكتب، و لم تكن الكتب في الخزائنالتي وصلت حد السقف، بل كانت على الكراسيّ و الطاولات و حتى على الأرض. و مع ذلك لم تكن في حالة فوضى.

كانت الغرفة باردة كأن أحداً لم يدخلها، و كانت رائحة عفن الكتب العتيقة و شمع العسل تخرج منها. و بسرعة أدركت أن الغرفة تفتقر إلى رائحة التبغ، لم يكن فيليب مدخناً!

و عندما دخلنا نهض فيليب من وراء طاولته كان رجلاً طويلاً أنيقاً في حوالي الخمسين من عمره.

كان الناس يذكرون كثيراً قبح أريستايد ليونايدز، فتوقعت أن يكون ابنه قبيحاً مثله، و لم أكن مستعداً لرؤية رجل كامل الأوصاف: الأنف المستقيم، الخط المتصدع في فكه، الشعر الأشقر الذي خطه الشيب و المصفف إلأى الخلف، و الجبهة الجميلة.

قالت إيديث:

- هذا تسارلز هيوارد يا فيليب.

- ها! كيف حالك؟

لا أدري إن كان فيليب قد سمع بي من قبل؟ فقد صافحني برود و لم يكن وجهه فضولياً، وقف دون اهتمام. و سألته إيديث:

- أين رجال الشرطة البغيضون؟ هل جاؤوا إلى هنا؟

- أظن أن رئيس المفتشين – و نظر في بطاقة على الطاولة – تافيرنر قادم ليتحدث معي في الحال.

- أين هو الآن؟

- لا أدري يا خالتي إيديث، أظن أنه بالطابق العلوي.

- مع بريندا؟

- لا أعرف.

عندما تنظر في وجه فيليب ليونايدز لن تصدق أن جريمة وقعت قريباً منه. سألته إيديث:

- أماتزال ماجدا فوق؟

- لا أعلم، في العادة لا تذهب هناك قبل الحادية عشرة.

قالت إيديث:

- هذا الصوت يشبه صوتها.

الصوت الذي كان يشبه صوت السيدة ماجدا كان صوتاً عالياً يتحدث بسرعة كبيرة و يقترب بسرعة. و انفتح الباب من خلفي بقوة و دخلت امرأة كأنها ثلاث نساء لا واحدة!

كانت تدخن لفافة في مِمْسك طويل، و تلبس ثوبا فضفاضاً طويلاً من الساتان قرنفلي اللون تمسك به بيد واحدة، و كان شعرها الغزير المتموج مسترسلا على ظهرها، وجهها بلا مساحيق كأنه لوحة زيتية، و عيناها زرقاوين جاحظتين، و كانت تتكلم بسرعة و ينطلق لسانها بصوت جذاب قوي و نظق واضح! قالت:

- حبيبي فيليب، لا أستطيع احتمال ذلك، ألم تفكر في البلاغات؟ إنها لم تظهر في الصحف بعد و لكنها ستنتشر حتما. و لا أعرف ماذا ألبس في التحقيق؟ لن ألبس ثوباً أسود، ربما ثوبا أرجوانياً. و لم يبقى عندي كوبونات، لقد أضعت عنوان ذاك الرجل البعيض الذي يبيعها لي! إن الموقف قريب من شارع شيفتْسْبوري، و لو ذهبت هناك بالسيارة فإن الشرطة سيتبعونني و ربما يسألونني أسئلة سمجة، أليس كذلك؟ ماذا أقول لهم؟ ألا نستطيع أن نترك هذا البيت الكريه الآن؟ حرية. حرية! آه! إنه عمل غير لطيف. العجوز المسكين! نحن لم نتركه يوماً حين كان حياً. و كان يحبنا رغم كل المشاكل التي حاولت أن تثيرها تلك المرأة في الطابق الأعلى! إنني متأكدة أننا لو ذهبنا و تركناه لها لقطع عنا كل شيء. لو لم تكن امرأة مرعبة فظيعة لما وقفتْ كل العائلة في وجهها حين دخلت حياته و هو على باب التسعين! فيليب، أظن أن الفرصة الآن رائعة لنؤدي مسرحية ((لإيديث تومبسون))، هذه الجريمة ستعطينا الكثير من الدعاية مقدماً. لقد قال بيلدين ستين أنه يستطيع أن يجعل هذه المسرحية الشعرية الحزينة عن عمال المناجم ناجحة في أي وقت. إنه دور رائع! أعرف أنهم يقولون أنني يجب أن أقوم دائما بالأدوار الهزلية بسب شكل أنفي، لكنك تعلم يا فيليب أن في مسرحية ((إيديث تومبسون)) كثيراً من المشاهد الكوميدية. لعل المؤلفة لم تدرك ذلك. الكوميديا تزيد عنصر التشويق. إنني أعلم كيف أقوم بهذا الدور مبتذلاً و سخيفاً و كاذباً من أوله إلى آخره، و من ثم...

و مدت ذراعيها، فسطقت اللفافة من الممسك على طاولة فيليب المصنوعة من الماهوغانيالمصقول و جعلت تحرقه، فأمسكها فيليب بهدوء و ألقاها في سلة المهملات.

همست ماجدا و قد استسعت عيناها فجأة و تشنج وجهها:
- ثم يأتي الرعب!

بقيت علامات الخوف الشديد بادية على وجهها قليلاً، ثم انبسط وجهها و تجعد، و أصبحتمثل طفلة متحيرة توشك أن تبكي. و فجأة زال كل الانفعالات و سألتني بنبرة رسمية و قد التفتت إلي:

- ألا تعتقد أن هذه هي طريقة عرض مسرحية ((إيديث تومبسون))؟

وافقتُها. في تلك اللحظة استطعت أن أتذكر بغموض شديد إيديث تومبسون، لكني كنت مهتماً أن أبدأ بداية جيدة مع والدة صوفيا. قالت ماجدا:

- إيديث تشبه بريندا، أليس كذلك؟ هل تعرف أنني لم أفكر بذلك أبداً. غنه مشوق جدا، هل يجب أن أوضح هذا للمفتش؟

قطب الرجل الجالس وراء المكتب حاجبيه قليلاً ثم قال:

- لا حاجة يا ماجدا أن تَريْه على الإطلاق. يمكنني أن أخبره بكل شيء يريد معرفته.

ارتفع صوتها: لا أراه؟ بل يجب أن أراه. إنك يا حبيبي ضيق الخيال لا تفهم أهمية التفاصيل. سوف يرغب في معرفة كيف و متى حدث كل شيء بالضبط و سائر التفاصيل الصغيرة التي رأيناها و تعجبنا منها آنذاك.

قالت صوفيا و هي تدخل من البياب المفتوح:

- أمي، لا نريدك أن تخبري المفتش كثيراً من الأكاذيب.

- صوفيا، حبيبتي!

- أعرف أنك قد أعددت كل شيء و أنك تهيأت لأداء دور جميل جداً، لعلك حفظتِهِ بطريقة خاظئة. خاطئة تماماً!

- هراء.. أنت لا تعرفين.

- إنني أعرف. يجب أن تمثلي هذا الدور على شكل مختلف تماماً: تكونين متحفظة قليلة الكلام، تكبحين جماح لسانك و تحرصين على حماية العائلة.

ظهرت على وجه ماجدا ليونايدز حيرة طفلة ساذجة. قالت:

- حبيبتي، هل تظنين حقاً..؟

- أجل، أظن ذلك، احترزي في الكلام، هذه هي الفكرة.

ابتسمت الأم بسمة رضى عندما أضافت صوفيا قائلة:

- لقد صنعت لك بعض الشُكُلاته، إنها في غرفة الاستقبال.

- ها! جيد! أكاد أموت جوعاً.

وقفت عند الباب و قالت:

- ما أجمل أن يكون لك ابنة!

و لم أدرِ هل كانت تخاطبني أم تخاطب رف الكتب الذي فوق رأسي؟ ثم خرجت من الغرفة، فقالت اآنسة دي هافيلاند تخاطب صوفيا:

- الله أعلم بما ستقول أمك للشرطة!

- ستكون على ما يرام.

- قد تقول شيئاً!

- لا تقلقي. ستؤدي الدور كما يريد المنتج، و أنا المنتج.

و خرجت صوفيا وراء أمها ثم التفتت لتقول:

- هاهو رئيس المفتشين جاء يراك يا أبي. لن تمانع أن يبقى تشارلز هنا، أليس كذلك؟

أظن أنني لمحت بعض الحيرة على وجه فيليب ليونايدز، ربما، لكنه همس بصوت غامض:

- أوه بالتأكيد... بالتأكيد.

دخل رئيس المفتشين تافيرنر و قد بدا الحزم على ملامحه، أما سلوكه فكأنه كان يقول:((سنتحمل بعض المكاره ثم نخرج من البيت و لا نعود أبداً، و لن يكون أحد أكثر سروراً مني بذلك.. أؤكد لك أننا لم نأت لنتسكع)).

لا أدري كيف فهمنا ما فعله من كلمة واحدة سوى أنه سحب كرسياً إلى الطاولة. و جلست غير متطفل بعيداً قليلاً. قال فيليب:

- نعم حضرة المفتش؟

قالت الآنسة دي هافيلاند فجأة:

- هل تريدني يا حضرة المفتش؟

- ليس الآن يا آنسة دي هافيلاند، ربما، من بعدُ، أتحدث معك قليلاً.

- بالطبع، سأكون في الطابق العلوي.

و خرجت دي هافيلاند و أغلقت الباب وراءها. و قال فيليب مرة ثانية:

- حسنا يا حضرة المفتش؟

- أعلم أنك رجل أعمال منشغل جداً و لا أريد أن أعوّقك كثيراً، لكن شكوكنا ربما تصير من بعدُ مؤكدة. إن أباك لم يمت ميتة طبيعية، بل مات من جرعة زائدة من مادة سامة: ((فايسوستجماين)) و هي معروفة عادة ((الإيسيرين)). هل يوحي لك هذا شيئاً؟

- و ماذا يوحي؟ إن رأيي أن أبي لابد قد أخذ السم دون قصد.

- هل تعتقد ذلك حقيقة سيد ليونايدز؟

- نعم، هذا يبدو لي ممكناً تماماً؛ لأنه كان قريبا من التسعين و بصره ضعيف!

- لذلك فرغ محتويات زجاجة قطرة العين في زجاجة الأنسولين. هل يبدو هذا اقتراحاً معقولاً يا سيد ليونايدز؟

لم يُجبه فيليب حتى أن وجهه أصبح خالياً من التعبير. و أ:مل التافيرنر:

- لقد وجدنا زجاجةو القطرة فارغة في سلة المهملات و ليس عليها بصمات، و هذا شيء غريب بحد ذاته، ففي الأحوال الطبيعية كان يجب أن يكون هناك بصمات أصابع، قد تكون بصمات أبيك أو بريندا أو الخادم...!

رفع فيليب بصره:

- الخادم؟ ماذا عن جونسون؟

- هل ترى أن جونسون هو المجرم؟ إن لديه فرصة بالتأكيد. لكن عندما نصل إلى الدافع يكون الأمر مختلفاً. كان من عادة أبيك أن يدفع لجونسون مكافأة كل عام، و في كل سنة كانت المكافأة تزيد؛ لأن جونسون يعلم أن تلك المكافآت هي بدل من نصيبه في الوصية. و الآن بعد سبع سنين، بلغت المكافأة من الخدمة مبلغاً كبيراً يأخذه كل عام و ما زالت تزيد. و من مصلحة جونسون أن يعيش أبوك طويلاً، كما أنهما كانا متحابّين كثيراً، و سجل جونسون من خدمته السابقة لا يرقى إليه الاتهام. إنه خادم ماهر جداً و مخلص! إننا لا نشل فيه.

- فهمت.

- و الآن يا سيدي، هل تعطيني وصفاً مفصلاً لتحركاتك في اليوم الذي حدثت فيه وفاة والدك.

- أجل يا حضرة المفتش: كنت هنا في هذه الغرفة طوال اليوم باستثناء أوقات وجبات الطعام.

- ألم تَرَ والدك على الإطلاق؟

- قلت له: ((صباح الخير)) بعد الإفطار، و هي عادتي.

- هل كنتما وحدكما عندئذ؟

- كانت... كانت زجة أبي في الغرفة.

- و هل كان طبيعياً كالعادة؟

أجاب فيليب بسخرية مبطنة:

- لم يظهر عليه أنه سيقتل ذلك اليوم.

- هل جناح أبيك منفصل تماماً عن هذا الجناح؟

- أجل، لا مدخل إليه إلا من باب القاعة.

- و باب القاعة هل يظل مغلقاً؟

- لا. لم أعلم أنه يغلق.

- هل يستطيع أي واحد أن ينتقل بحرية بين دلك الجناح و هذا؟

- أجل. لقد كان مفصولاً من أجل راحة أهل المنزل.

- كيف بلغك أول مرة نبأ موت أبيك؟

- أخي روجر هو الذي يسكن الجناح الغربي من الطابق الذي فوقنا جاء هرولة ليخبرني أن أبي قد انتابته نوبة مفاجئة، و قال أنه يتنفس بصعوبة و أنه يبدو مريضاً جداً...

- فماذا فعلت؟

- اتصلت بالطبيب، حيث بدا لي أن أحداً لم يفكر في استدعائه. و كان الطبيب خارجاً فتركت له بلاغاً لكي يأتي من فوره ثم صعدت إلى الطابق الأعلى..

- و بعدها؟

- أبي كان في حال خطيرة. لقد مات قبل أن يصل الطبيب!

لم يكن في صوته أي انفعال، كان بيانا بسيطا عن الحقيقة!

- أين كان بقية أفراد العائلة؟

- زوجتي كانت في لندن و عادت بعد موته بوقت قصير، و أظن أن صوفيا كانت غائبة هي الأخرى. أما يوستيس و جوزيفين فقد كانا في البيت.

- أرجو أن لا تخطئ فهمي يا سيد ليونايدز لو أنني سألتك: كيف يؤثر بالضبط موت أبيك في وضعك المالي؟

- أقدر تماماً أنك تريد الحقيقة. لقد جعلنا مستقلين مادياً منذ سنين عدة. فقد جعل أخي رئيساً و مساهماً في شركة لتجهيز الأغذية، و هي أكبر شركة له، و وضع إدارتها تحت يده.
و لقد خصص لي ما أعتبره مبلغاً مساوياً: مئة و خمسين ألف جنيه على شكل سندات مالي مختلفة، و كان بإمكاني أن أستثمر رأس المال كيف أشاء. كما خصص نصيباً كبيراً أيضاً لشقيقتيّ اللتين توفيتا بعد ذلك.

- و رغم ذلك ظل رجلاً غنياً جداً؟

ابتسم فيليب لأول مرة ابتسامة باهتة و قال:

- لا، فقد احتفظ لنفسه بدخل متواضع نسبياً لكنه بدأ بمشاريع جديدة فصار أغنى من ذي قبل!

- لقد جئت أنت و أخوك للعيش هنا. هل كان ذلك بسبب صعوبات مالية؟

- كلا بالتأكيد، بل من أجل الراحة. كان أبي يرحب بنا دائماً لنعيش عنده، و لأسباب مختلفة كنت أرغب هذا. كنت أحب أبي كثيراً. جئت هنا مع أسرتي عام 1937. لا أدفع أجرة لكني أدفع نسبة من الضريبة.

- و أخوك؟

- أخي جاء هنا هارباً من الغارة الجوية التي دمرت بيته عام 1943 في لندن.

- و الآن يا سيد ليونايدز، هل لديك أية فكرة عن محتويات وصية والدك؟

- فكرة واضحة جداً. لقد أعاد أبي كتابة وصيته عام 1946. لم يكن والدي كتوماً و كان يهتم بأفراد العائلة، فعقد احتماعاً خاصاً للأسرة حضره محاميه الذي شرح لنا بنود الوصية، و أظنم أنك اطلعت عليها فلاشك أن السيد جيتْسْكيل قد أبلغك بها.
لقد أوصى بمئة ألف جنيه خالية من الضرائب لزوجته ناهيك عن ((هبة الزواج)) السخية التي حصلت عليها. ثم جعل أملاكه ثلاث حصص: واحدة لي، و الثانية لأخي، و الثالثة تحت الوصاية لأحفاده الثلاثة. إن البيت كبير لكن ضريبة الإرث ستكون كبيرة.

- و هل أوصى بشيء للخدم أو المؤسسات الخيرية؟

- لا. إن الرواتب التي تدفع للخدم كانت تزاد سنويا ما داموا في الخدمة.

- هل أنت – و عذراً لسؤالي هذا يا سيد ليونايدز – في حاجة ماسّة للمال؟

- ضريبة الدخل – كما تعرف يا حضرة المفتش – كبيرة، لكن دخلي يكفي حاجتي و حاجة زوجتي أيضاً. أضِفْ إليه أن والدي كان دائم العطايا، و إذا طرأت لنا حاجة كان يسدّها فوراً! تأكدْ أنْ ليس عندي أي ضيق مالي يدفعني إلى الرغبة في موت أبي يا حضرة المفتش.

- أنا آسف جداً يا سيد ليونايدز لا أعني هذا لكنّ علينا أن نحصل على جميل الحقائق. أخشى أنه يجب أن أسألك بعض الأسئلة الحرجة... هل كان والدك و زوجته سعيدين معاً؟

- حسب ظني كانا سعيدين تماماً.

- ألم تحدث بينهما مشاجرات أو خلافات؟

- لا أظن ذلك.

- ألم يكن بينهما فرْق كبير في السن؟

- بلى.

- اسمح لي: هل وافقت على زواج أبيك الثاني؟

- لم يطلب موافقتي على ذلك.

- هذا ليس جوابا يا سيدي.

- مادمت تصر فإنني أقول أن زواجه كان عملاً غير حكيم.

- و هل تنازعت معه من أجل ذلك؟

- عندما سمعت به كان الزواج تمّ و انقضى الأمر!

- هل صدمك الخبر؟

لم يُجبْه فيليب.

- هل غضبت من زواجه؟

- كان والدي حراً يفعل ما يشاء.

- كيف كانت علاقتك مع السيدة ليونايدز؟

- عادية.

- هل أنت على علاقة ودية معها؟

- إننا لا نكاد نلتقي.

غير تافيرنر موضوعه:

- هلا أخبرتني بشيء عن السيد لورنس براون؟

- أخشى أنني لا أستطيع! والدي هو الذي وظفه.

- لكنه كان يعلّم أطفالك أنت يا سيد ليونايدز.

- صحيح. كان ابني مصاباً بشلل الأطفال إصابة بسيطة و قد نصح الأطباء ألا نرسله إلى مدرسة حكومية، فأشار أبي أن نعيت له معلماً يعلمه هو و ابنتي الصغيرة جوزيفين، و كان الخيار في ذلك الوقت محدوداً؛لأن المعلم كان يجب ألاّ يكون مطلوباً للخدمة العسكرية آنذاك. كانت أوراق هذا الشاب مرْضية، و كان أبي و خالتي التي تعتني بالأطفال راضييْن عنه فأذعنت لهما، و أنا لم أجد عيبا في طريقة تعليمه، فقد كان مخلصا و يفي بالمطلوب.
- كان يسكن في جناح أبيك و ليس هنا، أليس كذلك؟

- في الطابق العلوي غرف كثيرة.

- أرجو ألا يسوؤك هذا السؤال: هل لاحظت ما يدل على علاقة غرامٍ بين لورانس براون و زوجة أبيك؟

- لم تتهيأ لي فرصة حتى ألاحظ شيئاً مثل هذا.

- ألم تسمع كلاماً أو ثرثرة في هذا الأمر؟

- أنا لا أصغي إلى الثرثرة يا حضرة المفتش.

- هذا جدير بالإكبار! إذن فأنت لم تسمع سوءاً و لم تر سوءاً و لا تريد أن تنطق بسوء، أليس كذلك؟

- إن كنت تريد أن تفهمها كطذلك، فلك ما تريد يا حضرة المفتش.

نهض تافيرنر و قال:

- حسناً، شكراً لك يا سيد ليونايدز.

و تبعته دون فضول خارج الغرفة فسمعته يقول:

- إنه رجل فاتر.

*****




- 7 -
قال تافيرنر:

- و الآن سنذهب لنتحدث مع السيدة فيليب. اسمها الفنّي هو ((ماجدا ويست)).

- و هل تفيدنا؟ أعرف اسمها، و لقد رأيتها في مسرحيات عدة لكن لا أذكر متى و أين؟

- إنها واحدة من فؤقة ((الأعمال الناجحة))، مثلتْ دور البطولة مرة أو مرتين في غربي إنكلترا، و قد نجحت و اشتهرت في المسارح الثقافية الرفيعة و أندية الأحد. أظن أنها لم تكن تعتمد على المسرح في كسب الرزق. كانت تستطيع أن تختار المسرحية التي تعجبها و تذهب حيث تشاء، و من وقت لآخر كانت تدفع المال من أجل عرضٍ فيه دور أحبته، و لم تكن ترضى بأي دور. النتيجة أنها تراجعت قليلاً إلى مرتبة الهواة أكثر من كونها ممثلة محترفة! إنها ممثلة جيدة لا سيما في الكوميديا لكن المخرجين لا يحونها كثيراً، يزعمون أنها لا تلتزم بالقيود و تثير المتاعب و المشاجرات و تستمتع بإثارة المنزعات بين الناس. لا أعرف مدى صحة هذا، لكنها غير محبوبة من قبل زملائها الفنانين.

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال و قالت:

- والدتي هنا يا حضرة المفتش.

تبعتُ تافيرنر إلى غرفة الاستقبال الكبيرة. في البداية لم أستط معرفة المرأة التي جلست على الأريكة المطرزة. كان شعرها يرتفع عالياً فوق رأسها بتسريحة من العهد الإدواردي، و كانت تلبس معطفاً أخضر أنيقاً و تنورة و قميصاً بنفسجياً باهت اللون مثبتاً عند الرقبة بدبوس صغير من الحجر الكريم.

أدركت لأول مرة سحر أنفها المائل الذي ذكّرني بأثين سيلر، و لم أصدق أن هذه المرأة كانت هي ذات المرأة العنيفة في الثوب المخملي الفضفاض! قالت:

- المفتش تافيرنر؟ هلا دخلت و جلست؟... هل تدخن؟ هذا عمل فظيع جداً! إنني أشعر الآن بالنفور من التدخين!

كان صوتها خافتاً و خالياً من العاطفة، صوت امرئٍ عازم على ضبط النفس مهما يكن الثمن، و قالت:

- أرجو أن تخبرني: هل أستطيع مساعدتك بشيء؟

- شكراً لك سيد ليونايدز: أين كنت يوم المأساة؟

- كنت قادمة في سيارتي من لندن حيث تناولت الغداء في ذلك اليوم في مطعم إيفي مع صديقة لي، ثم ذهبنا لنشاهد عرض أزياء و شربنا القهوة مع بعض الأصدقاء في بيركلي، و بعد ذلك انطلقتُ راجعة إلى البيت و حين وصلت رأيت كي شيء مضطرباً...

و ارتعش صوتها قليلاً و هي تقول: وجدت حماي قد أصابته نوبة فجأة... كان ميتاً!

- أكنت تحبين حماك؟

رفعت صوتها:

- كنت أحب...

ارتفع صوت ماجدا، و في تلك اللحظة مدّت صوفيا يدها بهدوء فعدّلت لوحة معلقة فوق الموقد، و في الحال انخفض صوت ماجدا:

- كنت أحبه كثيراً. كنا جميعاً كذلك.لقد كان طيباً جداً معنا!

- هل كانت علاقتك جيدة مع السيدة ليونايدز؟

- لم نكن نرى بريندا كثيراً.

- و لم كان ذلك؟

- لم تكن بيننا أشياء كثيرة مشتركة. مسكينة بريندا! لا بدّ أن حياتها كانت صعبة في بعض الأحيان.

مرة أخرى عبثتْ صوفيا باللوحة فوق الموقد.

- حقاً؟ و كيف؟

هزت ماجدا رأسها و ابتسمت بسمة حزينة قصيرة:

- آه! لا أدري.

- هل كانت السيدة بريندا سعيدة مع زوجها؟

- أظن ذلك.

- لأم تحدث بينهما مشاجرات؟

مرة أخرى هزت رأسها و هي تبتسم ابتسامة لطيفة:

- الحق أنني لا أعرف يا حضرة المفتش، فجناحهما من البيت منفصل عنا تماماً.

- ألم تكن هي على صداقة حميمة مع السيد لورنس براون؟

عبست ماجدا ليونايدز، فتحت عينيها تنظران إلى تافيرنر نظرة توبيخ، و قالت بوقار:

- ما كان ينبغي لك أن تسألني أسئلة كهذه. كانت بريندا محبوبة عندنا جميعاً، كانت امرأة لطيفة جداً!

- هل أنت راضية عن السيد براون؟

- إنه رجل هادئ لطيف، لكنك لا تحس بوجوده. أنا لم أره كثيراً!

- أأنت راضية عن تدريسه؟

- أظن ذلك، لا أعرف. و لكن كان فيليب يبدو راضياً.

جرّب تافيرنر أسلوب الصدمة:

- آسف لسؤالي هذا: هل كان هناك برأيك أي علاقة حب بين السيد براون و السيدة ليونايدز؟

نهضت ماجدا مثل سيدة من النبلاء و قالت:

- لم أرى أي دليل على شيء من هذا، و أحسب – يا حضرة المفتش – أنه ليس من حقك أن تسألني مثل هذا السؤال، فبريندا كانت زوجة حميّ.

استحسنت جوابها هذا. أما تافيرنر فقد وقف قائلاً:

- هل أستطيع أن أسأل الخدم هذا السؤال؟

لم تُجبْه ماجدا، فتابع: شكراً لك يا سيدة ليونايدز.

و خرج المفتش، فقالت صوفيا لأمها بحرارة:

- لقد أديت ذلك بشكل جميل يا حبيبتي.

فتلت ماجدا خصلة من الشعر وراء أذنها اليمنى و نظرت وجهها في المرآة. قالت:

- نعم... نعم. أعتقد أنني أديت عملي بالطريقة الصحيحة.

نظرت صوفيا إليّ و سألت:

- أما كان يجب أن تخرج وراء المفتش؟

- اسمعيب يا صوفيا، ما الذي ينبغي لي...؟

سكت لساني. لم أستطع سؤالها صراحة أمام أمها عن دوري الذي يجب أن أقوم به؛ لآن ماجدا لم تُبدِ – حتى الآن – أقل اهتمام بي. لعلي كنت في نظرها صحفياً أو مستشاراً عند ابنتها! ربما أكون صحفياً أو عيناً للشرطة أو حتى ناحوتياً، إذْ كل هذه الأشياء عند ماجدا واحدة؛ فالشرطي و الصحفي و الحانوتي كلهم عندها ((جمهور))! قالت ماجدا و هي تنظر إلى قدميها بسخط:

- هذا الحذاء تافه!

استجبتُ لحركة متعجرفة من صوفيا و أسرعتُ خارجاً وراء تافيرنر. لحقت به في الصالة الخارجية و هو يلج الباب إلى الدرج، قال:

- سأصعد لأرى الأخ الأكبر.

أوضحت له مشكلتي دون ضجة مستفسراً:

- أرجوك اسمعني يا تافيرنر! ماذا يفترض أن أكون؟

اندهش:

- ماذا يفترض أن تكون؟

- أجل، ماذا أفعل هنا، في هذا البيت؟ إن سألني أحدٌ فماذا أقول؟

فكر المفتش لحظة و قال:

- ها! فهمت... – و ابتسم –.. و هل سألك أحدٌ شيئاً؟

- لا.

- إذن فلِمَ لا تترك الأمر هكذا؟ لا تشرح أبداً. هذا أسلوب جيد، لا سيما في بيت مضطرب كهذا البيت: كل منهم شغلتْه مشاكله الخاصة و مخاوفه فلا أحسَبُه يفكر في أمرك. سوف يرضوْن بوجودك ما دمت تبدو واثقاً من نفسك. إن قول أي شيء خطأ عظيم ما دمت لا توجد ضرورة لذلك. و الآن هيا إلى الدرج، لا شيء مغلقاً هنا. أنت تفهم طبعاً أن هذه الأسئلة التي أسألها كلها هراء. إن الأسئلة عمن كان في البيت و من لم يكن غير هامة، أو: أين كانوا جميعاً في ذلك اليوم؟

- إذن فلماذا..؟؟

- لأنها فرصة لأنظر إليهم جميعاً فأكوّن انطباعاتي و أسمع ما يريدون قوله، ربما يعطيني أحدهم – بالمصادفة المخصة – مؤشراً مفيداً..

و صمت قليلاً ثم همس: أُقْسِمُ أن ماجدا ليونايدز يمكنها أن تكشف أشياء كثيرة لو أرادت ذلك.

- و هل تعتمد على كلامها هذا؟

- لا، لن يُعتمد عليه، لكن لعله يرشدنا إلى وجهةٍ ما في التحقيق! كل أحدٍ في هذا البيت الملعون له وسائله و فرصته. ما أسعى إليه هو الدافع.

عند رأس الدرج كان ثمة باب يسد الممر الأيمن و كان عليه مطرقة نحاسية. طرق المفتش البا كما ينبغي ففتحه رجل بدت في وجهه علامات الدهشة و المفاجأة. لا بد أنه كان يقف وراء الباب!

كان رجلاً عملاقاً لك كتفان قويان و شعر أسود جعد ووجهه قبيح إلى أبعد حدّ غير أنه وجه لطيف.

نظر إلينا ثم ردّ بصره بسرعة بتلك الطريقة المتحيرة ينظر بها الرجل الصادق الحييّ، و قال:

- تفضلا. نعم. أرجوكما! كنت أنوي الخروج لكن هذا لا يهم. تفضلا إلى غرفة الجلوس. سأنادي كليمنسي... ها! انت هنا يا حبيبتي؟ إنه رئيس المفتشين تافيرنر... هل عندنا تبغ؟ أرجوك انتظر لحظة.

اصطدم بِسُورٍ و قال مرتبكاً:

- أرجو المعذرة!

ثم خرج من الغرفة كالنحلة الطنانة التي تترك وراءها صمتاً!

كانت زوجته واقفة بجانب الشباك. أسرتني شخصيتها الجذابة و شدّت انتباهي الغرفة التي كنا نقف فيها. كانت الحيطان مصبوغة باللون الأبيض. الأبيض الحقيقي، غير العاجيّ و لا المائل إلى الصُّفرة، و لم يكن عليها من الصّور سوى واحدة فوق رف الموقد كانت عملاً هندسياً غير تقليدي: مثلثات رمادية داكنة و سفينة زرقاء!

كانت السيدة روجر تختلف عن السيدة فيليب تماماً. ماجدا ليونايدز قد تكون في دور ست نساء مختلفات، لكن كليمنسي ليونايدز – هو ما كنت متكأداً منه – لا يمكن أن تكون أبداً واحدة أخرى غير ذاتها: كليمنسي ليونايدز. كانت امرأة ذات شخصية حادة واضحة.

أظن أنها في الخمسين. شعرها رمادي قصير لكنه يزيد رأسها الصغير الجميل جمالاً! ووجهها رقيق يدل على الذكاء، و عيناها رماديتان تدلان على قوة غريبة حادة. و كانت تلبس ثوباً خمرياً من الصوف يناسب قوامها النحيف تماماً.

و شعرتُ فوراً أنها امرأة مذعورة؛ لأن مستوى المعيشة الذي تعيشه لم يكن ذلك الذي تعيشه امرأة عادية، و فهمت لماذا استخدمت صوفيا تعبير القسوة حين وصفتْها. ارتعشت قليلاً بسبب برودة الغرفة، و قالت كليمنسي بصوت هادء و لسان مهذب:

- اجلس من فضلك يا حضرة المفتس! هل عندك أخبار جديدة؟

- كان موته بسب الإيسيرين يا سيدة ليونايدز.

قالت متأملة:

- إذن فهذا يجعل الأمر جريمة قتل! ألا يمكن أن تكون حادثاً من أي نوع؟

- لا يا سيدتي.

- أرجو أن تكون لطيفاً مع زوجي يا حضرة المفتش، فهذا الأمر يؤثر فيه كثيراً. لقد كان يحب أباه كثيراً و هو مرهف الإحساس عاطفي إلى أبعد الحدود.

- هل كنتما على علاقة حسنة مع حماك يا سيدة ليونايدز؟

- نعم، علاقة حسنة تماماً. ثم أضافت بهدوء: و لكني لم أكن أحبّه كثيراً.

- لماذا؟

- لا تعجبني أهدافه في الحياة و لا أسلوبه في تحقيقها.

- و السيدة بريندا؟

- بريندا؟ لم أكن أراها كثيراً.

- هل تظنين أن من الممكن وجود علاقة بينها و بين السيد لورانس براون؟

تقصد علاقة حب؟ لا، لكني لم أكن أعلم شيئاً من ذلك.

بدا من صوتها أنها غير مهتمة.

رجع زوجها روجر مسرعاً بنفس حركته الطنانة المزعجة و قال:

- لقد تأخرت... مكالمة هاتفية. حسنا يا حضرة المفتش، ماذا هناك؟ حسنا، هل لديك أخبار؟ ما الذي سبب وفاة والدي؟

- كانت الوفاة بسبب التسمم بالإيسيرين.

- حقاً؟ يا إلهي! إذن لابد أنها تلك المرأة! لم تستطع الانتظار! لقد أخرجها من حياة الفقر، أهكذا جزاؤه؟ قتلته بدم بارد! يا إلهي! إن دمي يغلي عندما أفكر بهذا.

- هل لديك سبب محدّد يجعلك تعتقد ذلك؟

كان روجر يُراوح جيئة و ذهاباً و هو يشد شعره بيديه:

- سبب؟ لِمَ؟ من يمكنه أن يفعل ذلك غيرها؟ لم أكن أثق بها يوماً. لم أحبها ألبتة.لا أحد منا يحبها. لقد فزِعتُ أنا و فيليب حين دخل علينا والدي يوماً من الأيام و أخبرنا أنه تزوج! في مثل عمره؟ ذاك جنون... جنون! كان أبي رجلاً مدهشاً يعجبك يا حضرة المفتش. كان عقله مدبّراً كأنه في سن الأربعين. إن كل شيء أملِكُه هو من خيره و فضله. لقد فعل كل شيء من أجلي. لم يخذلني يوماً بل أنا الذي خذلته! إني كلّما ذكرتُ ذلك...!

و ألقى بنفسه على الكرسي بقوة، و جاءت إليه زوجته:

- كفى يا روجر! لا تجهد نفسك!

أمسك بيدها و قال:

- أعرف يا عزيزتي. أعرف، و لكن كيف أقعد هادئاً؟ كيف أتمالك نفسي؟

- يجب أن نبقى جميعاً هادئين. إن السيد المفتش يريد
مساعدتنا.

- هذا صحيح يا سيدة ليونايدز.

صاح روجر:

- هل تعلم ما أود أن أفعل؟ لو أنني أحنق تلك المرأة بيديّ كلتيهمـا! لقد ضنّتْ على ذلك العجوز بضع سنين من الحياة! يا ليتني أمسك بها!... – وقف روجر و هو يرتعش من الغيظ، و مدّ يديه المرتعشتين – أجل، كنت سألوي عنقها... ألوي عنقها.

زجرته كليمنسي:

- روجر!

نظر إليها خَجِلاً:

- آسف يا عزيزتي.

ثم التفت إلينـا قائلاً: أسف فعـلاً، لقد غلبتني مشاعري. إنني... اعذروني.

و خرج من الغرفة ثانية، و قالت زوجته في ابتسامة باهتة:

- الحقيقة أنه لا يستطيع أن يؤذي ذبابة!

قبِل تافيرنر كلمتها بأدب ثم شرع في أسئلته الروتينية.

- أين كنتما يوم مات السيد ليونايدز؟

- كان روجر في لندن في بوكْس هاوْس – و هو مركز شركة التجهيز الغذائي – ثم عاد في وقت مبكر من المساء و أمضى بعض الوقت مع أبيه، و هذه عادته. أنا كنت – كالعادة – في معهد لامبِرْت في شارع غورو حيث مكان عملي، و رجعتُ إلى البيت قبل السادسة.

- أرأيت حماك؟

- لا. كنت قد رأيته آخر مرة في اليوم الذي صبق وفاته و شربنا القهوة معه بعد العشاء.

- ألم تريْهِ يوم وفاته؟

- ذهبت – في الحقيقة – إلى جناحه من البيت لأن روجر حسِب أن ترك غليونه عند والده في غرفة نومه... غليون ثمين جداً، لكنني وجدته على طاولة الصالة هناك فلم أرغب أن أزعج العجوز. كان غالباًً ينام نوماً خفيفاً في حوالي السادسة.

- متى بلغك نبأ مرضه؟

- جاءت بريندا مسرعة. كان ذلك بعد السادسة و النصف بدقيقة أو اثنتين.

لم تكن هذه الأسئلة هامة كما علمت، لكني أدركت كيف يحرص المفتش تافيرنر أن يمعن النظر في المرأة التي كانت تجيب عن اسئلته.

سألها بعض الأسئلة عن طبيعة عملها في لندن فقالت أنه يتعلق بالتأثير الإشعاعي للتفجير النووي.

- إذن فأنت تعملين في حقل القنبلة الذرية، أليس كذلك؟

- عملي لا يمسّ القدرة التدميرية للقنبلة الذرية، فالمعهد ينفذ تجارب في التأثير العلاجي.

و عندما نهض تافيرنر أبدى رغبته في رؤية جناحهما الخاص من البيت فتفاجأت قليلاً لكنها أظهرت له استعدادها الكامل.

ذكرتني غرفة النوم بسريرها المزدوج ذي الأغطية البيضاء بالمستشفى أو بصومعة ديْرِ من الأديرة! أما الحمام فكان بسيطاً لا ترى فيه أي أداة رفاهية و لا مواد تجميل، و كان المطبخ خالياً من الأثاث نظيفاً و مجهزاً تجهيزاً جيداً بأدواتٍ من النوع العملي. ثم جئنا إلى باب فتحته كليمنسي قائلة:

- هذه غرفة زوجي الخاصة.

قال روجر:

- أدخلوا. تفضلوا.

أحسست بالطمأنينة... هاهو شيء من البساطة في مكان آخر من هذا البيت الأعوج الذي يثير في نفسي الكآبة.

كان في غرفته الشخصية مكتب كبير تبعثرت عليه الصحف و الغليونات القديمة و رماد التبغ، و كانت فيه كراسيّ كبيرة عتيقة. و السجّادُ العجمي يغطي البلاط، و على الحيطان صور باهتة لجماعات مدرسية و جماعة ((كالريكيت)) و الفصائل العسكرية، و رسومات بالألوان المائية للصحراء و المنارات و القوارب المبحرة و البحر و غروب الشمس. كانت غرفته صافية، غرفة رجل محب حنون و حلو المعشر.

كان روجر يصب لنا الليمون بطريقة غير بارعة من وجاجة و هو يُبعد الكتب و الصحف عن أحد الكراسي. قال:

- الغرفة فوضى! كنت أفرغ الغرفة و أتخلص من الصحف القديمة... قدم لنا الليمون ثم تابع كلامه ملتفتاُ إلى تافيرنر:

أرجو أن تسامحني... لقد فقد السيطرة على مشاعري.

و نظر حوله كأنه يشعر بالذنب، و لم تكن كليمنسي ليونايدز معنا في الغرفة ثم تابع.

- إنها رائعة، أعني زوجتي. رغم كل الذي جرى فهي رائعة! لا تدري كم أنا معجب بها! فقد عاشت وقتاً عصبياً مخيفاً قبل أن نتزوج أحب أن أخبرك عنه. لقد كان زوجها الأول رجلاً عظيماً – أقصد أنه ذو عقل عظيم – لكن جسمه كان ضعيفاً من مرض السل، و كان ينجز بحثاً قيماً في علم البلوريات، و كان راتبه قليلاً مع أنه كان متفوقاً في عمله. لكنه لم يستسلم، و قد كدحتْ من أجله فلم تجعله يعلم أن كان يموت، و لم تشتكِ بتاتاً و لم تتذمر، و كانت تبدو دائماً سعيدة!

ثم مات فحزنتْ عليه كثيراً، و أخيراً رضيتْ بالزواج مني، و كنت سعيداً جداً لأنني كنت قادراً أن أمنحها السعادة و الراحة. و قد رجوتها أن تترك العمل لكنها عرفت بالطبع أن العمل في الحرب كان واجباً عليها و ما تزال تشعر أنها يجب أن تستمر في عملها... زوجة رائعة! لقد كنت محظوظاً! كنت سافعل كل شيء من أجلها.

أجابه تافيرنر جواباً مناسباً ثم عاد إلى أسئلته السابقة من جديد:

متى بلغك أن أباك مريض؟

- أسرعت بريندا تناديني، قالت إن نوبة مرضية ما أصابت أبي، و كنت أجلس مع العجوز العزيز قبل ذلك بنصف ساعة فقط، و كان في صحة تامة! أسرعت إليه و كان يلهث و وجهه أزرق. نزلت مسرعاً إلى فيليب فاتصل بالطبيب. إنني... إننا لم نستطع أن نفعل شيئاً! لم أتخيل قطعاً و لا لحظة واحدة بأن هناك عملاً غريباً. غريب؟ هل قلت: غريب؟ يا إلهي يبا لها من كلمة استخدمتها.

و ببعض الصعوبة خلصنا أنفسنا أنا و تافيرنر من الجو العاطفي لغرفة روجر ليونايدز، و وجدنا أنفسنا خارج الباب مرة أخرى عند أول الدرج. قال تافيرنر:

- إنه مختلف تماماً عن أخيه... أشياء و غرف غريبة، هذا يخبرك كثيراً عمن يعيشون فيها.

- أجل.

- و غريبون هؤلاء الناس، و زواجهما غريب أيضاً أليس كذلك؟

لم أكن أعلم أكان يقصد كليمنسي و روجر أم فيليب و ماجدا؟ كانت كلماته تنطَبق على الزواجين لكن الزواجين كلاهما سعيد، كان زواج كليمنسي و روجر سعيداً حتماً. ثم سألني:

- هل يمكن أن يكون مجرما يضع السم؟ هل تقول عنه ذلك؟ لا أحسبه رجلاً خشناً. أما زوجته فالاحتمال لديها أكبر. إنها من صنف النساء عديمات الرحمة، و ربما كان بها مس من الجنون!

- لكني أظن أنها لن تقتل أحداً من الناس لمجرّد أن هدفه و أسلوب حياته غير مرضيين بالنسبة لها. ربما كانت تكره العجوز حقاً، و لكن هل تُرتكب جريمة بسب الكراهية الخالصة؟

- قليلاً جداً، و أنا لم أصادف حالة كهذه. لا. أظن أننا في حال أكثر أماناً لو اشتبهنا في السيدة بريندا، لكن أين الدليل؟

*****




- 8 -
فتحت الخادمة باب الجناح المقابل و أصابها الخوف حين رأت تافيرنر و إن كانت مسحة من الإزدراء ظاهرة عليها. قالت:

- لعلك تريد أن ترى السيدة؟

- نعم، من فضلك.

و تقدمتنا إلى غرفة الجلوس الكبيرة و خرجتْ.

كان أثاثها يشبه ذاك الموجود في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي: قماش الريتون ملوناً بألوان زاهية، و ستائر حريرية مخططة، و لوحة فوق رف الموقد لفتت انتباهي، ليس من اليد البارعة التي رسمتها فحسب، بل أيضا بسبب الوجه الآسر لصاحب الصورة.

كانت رسماً لرجل ضئيل. عيناه داكنتان خارقتان، على رأسه قلنسوة من المخمل الأسود، و قد التصق رأسه بكتفيه. لقد كانت حيوية الرجل و قوته تشعّ من اللوحة، و بدا أن العينين اللامعتين أذهلتاني! قال تافيرنر:

- هذا هو. رسمها أوغسطس جون. إن شخصيته قوية، أليس كذلك؟

- بلى.

و فهمتُ معنى قول إيديث دي هافيلاند إذ قالت أن البيت يبدو يدونه خالياً. ما اغرب هذا الرجل الصغير املنحني: الذي بنى البيت الصغير المائل، فلما غاب فَقَد البيت الصغير المائل معناه! قال تافيرنر:

- و تلك زوجته الأولى هناك. رسمها سارجِنت.

أمعنتُ النظر في الصورة المعلّقة على الحائط بين الشبّاكين. كان فيها وحشية ما مثل كثير من رسوم سارجنت، و قد رُسِم الوجه بشكل مبالَغ فيه فظهر كأنه وجه فرس. كانت رسمة لسيدة إنكليزية تقليدية من الريف لا من طبقة النبلاء، أنيقة لكنك لا تلمح فيها معنى الحياة، سيدة لم تكن تبتسم، بل كانت مستبدة قوية!

انفتح البا و دخل الرقيب لامب قائلاً:

- لقد عملت اللازم يا سيدي، استجوبت الخدم جميعاً و لكني لم أحصل على أي شيء.

تنهد تافيرنر في حين أخرج الرقبيب لامب دفتره من جيبه و رجع بعيداً ثم جلس. و انفتح الباب مرة أخرى و دخلت زوجة أريستايد ليونايدز الثانية.

كانت تلبس ثوبا أسوداً فاخراً ستر بدنها كله. كان وجهها معتدل الجمال، و شعرها بنياً جميلاً مصففاً بإتقان، و على صدرها عقد لآلئ كبيرة، و كان في إحدى يديها خاتم من الزمرد و في الأخرى خاتم كبير من الياقوت.

نظرت إلى وجهها المزيّن فعرفتُ أنها كانت تبكي، و لاحظت أنها خائفة. و خاطبها تافثيرنر بلطف:

- صباح الخير يا سيدة ليونايدز، إنني آسف لإزعاجك مرة أخرى.

قالت بصوت فاتر:

- يبدو أنك مضطر لذلك.

- إن كنت ترغبين في دعوة محاميك يا سيدتي فهذا يوافق النظام تماماً، أليس كذلك؟

تسائلت إن كانت قد فهمتْ مدلول هذه الكلمات؟ من الواضح إنها لم تفهم. عبست و قالت:

- لا أحب السيد جيتْسْكيل و لا أريده.

- يمكنك أن تحضري محامياً خاصاً لك يا سيدة ليونايدز.

- هل يجب علي ذلك؟ أنا لا أحب المحامين، إنهم مزعجون.

تبسم تافيرنر و قال:

- الأمر إليكِ، إذن فهل نواصل؟

أمسك الرقيب لامب بقلمه و جلست بريندا ليونايدز على الأريكة في مواجهة تافيرنر و سألته:

- هل وجدتم شيئاً.

لاحظت أن أصابعها كانت تعبث بعقدة في فستانها باضطراب.

- نقول جازمين بأن زوجك قد تسمم بالإيسيرين و مات.

- تقصد أن قطرة العين تلك قد قتلته؟

- من المؤكد أن السيد ليونايدز حين حُقن بتلك الإبرة الأخيرة تسمم؛ لأن ما فيها كان إيسيريناً لا أنسوليناً.

- لم أكن أعلم ذلك. لا علاقة لي بهذا يا حضرة المفتش! حقيقة لم تكن لي أي علاقة!

- إذن فلا بد من أن أحداً غيّر الأنسولين عمداً و عبأ الزجاجة بالقطرة.

- يا له من عمل شرير! هل تظن أن أحداً قد فعلها عمداً أم أنه قد أخطأ؟ لا ينبغي المزاح هنا، أليس كذلك؟

- لا نظن أنها كانت مزاحاً يا سيدتي.

- لعله أحد الخدم...

لم يرد تافيرنر عليها.

- لا بد... لا أرى شخصاً آخر يمكن أن يفعل ذلك.

- هل أنت متأكدة؟ فكري يا سيدة ليونايدز، أليس عندك فكرة تفسر ما حدث؟ ألم يكن في البيت مشاعر غير ودّية؟ مشاجرات؟ أحقاد؟

حدقت إليه بعينين واسعتين جريئين، ثم قالت:

- ليس عندي أية فكرة.

- هل قلت إنك كنت في السينما ذلك المساء؟

- نعم، عدت في الساعة السادسة و النصف، وقت إبرة الأنسولين. حقنته الإبرة بهدوء ثم أصابته حالة غريبة. ارتعبت. اسرعت إلى روجر...

و علا صوتها و جعلت تتكلم كأن الهستيريا أصابتها: لقد قلت لك كل هذا آنفاً، هل عليّ أن أعبد كل هذا مرة تلو الأخرى؟

- أسف يا سيدتي! و الآن هل أستطيع أن أكلم السيد براون؟

- لورانس؟ لماذا؟ إنه لا يعرف شيئاً في هذا الشأن.

- لكني أريد أن أكلمه.

حدقت فيه بارتياب:

- إنه يدرّس يوستيس اللغة اللاتينية في غرفة الدرس، أتريده أن يأتي هنا؟

- لا، سوف نذهب إليه.

خرج تافيرنر من الغرفة سريعاً و تبعته أنا و الرقيب. قال الرقيب لامب:

- لقد أرعبتها يا سيدي!

و صعدنا بضع درجات ثم سرنا في ممر و دخلنا غرفة كبيرة تُشرف على الحديقة و فيها طاولة. جلس وراء الطاولة شاب أشقر الشعر وسيم في الثلاثين من عمره، و فتى أسمر في السادسة عشرة.

دخلنا عليهما فرفعا بصرهما إلينا. يوستيس، أخو صوفيا، نظر إلي، و نظر لورانس براون إلى رئيس المفتشين نظرة خوف. لم أرَ في حياتي رجلاً مشلولاً من الخوف مثله! وقف ثم جلس مرة أخرى. قال بصوت كأنه صرير:

- أوه! صباح الخير يا حضرة المفتش.

كان تافيرنر فظاً:

- صباح الخير. هل أستطيع التحدث إليك؟

- نعم، بالطبع، يسرني ذلك.

نهض يوستيس و قال بمرح:

- هل أمضي أنا يا حضرة المفتش؟

قال المعلم:

- سوف... سوف نواصل دروسنا فيما بعد.

خرج يوستيس مختالاً و عندما وصل البا وقعت عينيه عليّ فتبسم ثم أغلق البا وراءه. قال تافيرنر:

- حسنا يا سيد براون. إن بيان المختبر جازم تماماً: الإيسيرين هو ما قتل السيد ليونايدز.

- إنني... هل تقصد... أن السيد ليونايدز قد تسمم؟ كنت آمل...

قال المفتش بغلظة:

- لقد سُمِّم. شخص ما استبدل بالأنسولين قطرة الإيسيرين اللعين.

- لا أصدق. لا أصدق!

- من الذي أقدم على فعل ذلك؟

صرخ الشاب:

- لا أحد. لا أحد بتاتاً.

- هل تريد حضور محاميك؟

- ليس لي محامٍ... لا أريد محامياً. لا شيء عندي أخفيه... لا شيء!

- ألا تعلم أن أقوالك تُدوّن؟

- أنا بريء، أقسم إنني لبرئ!

- لم أقل بأنك مجرم.

سكت تافيرنر قليلاً ثم أضاف قائلاً:

- كانت السيدة ليونايدز أصغر من زوجها بستة عقود، أليس كذلك؟

- أظن ذلك... أقصد: نعم، هذا صحيح.

- لا بد أنها كانت تضجر من الوحدة أحياناً؟

ظل لورانس صامتاً و لم يُجبه، فقط مرّر لسانه على شفتيها الجافتين.

- إن وجود رفيق لها أصغر منها أو أكبر قليلاً يعيش هنا كان أمراً مناسباً، أليس كذلك؟

- إنني... لا، إطلاقاً... أقصد: لا أدري!

- يبدو لي أنه من الطبيعي أن تنشأ بينكما علاقة.

احتج الشاب بعنف:

- كلا، لم يكن، لا شيء من ذلك. أعرف ما تفكر به، و لكنك واهم. كانت السيدة بريندا كريمة جداً معي و كنت أكنُّ احتراماً عظيماً لها، لا شيء أكثر من هذا. أؤكد لك ذلك، إنه أمر بشع أن تقول هذا! بشع! لم أقتل احداً، و لم أعبث بالزجاجات! إن مجرد فكرة القتل عندي كابوس رهيب. لو دخلتُ المحكمة فسوف يتفهّمون أن لدي دوافع دينية تمنعني أن أقترف القتل!
لقد كنت أشتغل في المستشفيات و كنت قبلها أذكي النار في مراجل القطارات و هو عمل شاق لم أتحملْه، لكن الجيش أذن لي بالتعليم. لقد بذلت ما بوسعي من أجل يوستيس و جوزفين الطفلة الذكية و الصعبة، و كان كل واحد لطيفاً معي إلى أبعد حد: السيد ليونايدز و زوجته و الآنسة دي هافيلاند! و الآن يقع هذا الأمر الرهيب و أنت تشك فيّ، فيّ أنا... أنني قتلته؟

حملق المفتش تافيرنر إليه باهتمام و قال:

- أنا لم أقل هذا.

- لكنك تفكر فيه. أعلم أنك تفكر فيه، و هم جميعاً يفكرون فيه. إنهم ينظرون إلي... إنني لا أستطيع مواصلة حديثي معك! إنني متعب و متوتر الأعصاب!

و ناطلق خارجاً من الغرفة. التفت تافيرنر إليّ:

- حسنا؟ ماذا ترى فيه؟

- لقد خاف كثيراً!

- نعم أعرف، لكن هل هو القاتل؟

قال الرقيب لامب:

- أتدري يا سيدي؟ إنني أراه جباناً لا يجرؤ على ذلك أبداً.

وافقة رئيس المفتشين:

- إنه لن يضرب أحد على رأسه و لن يطلق رصاصة من مسدس. لكن ما عساه أن يفعل في هذه الجريمة السهلة؟ يعبث بزجاجتين فحسب، يُعِين رجلاً عجوزاً على الخلاص من هذه الدنيا بطريقة غير مؤلمة نسبياً.

- القتل الرحيم يا سيدي!

- ثم بعد ذلك، ربما بعد زمنٍ، يكون الزواج من امرأة ترث مئة ألف جنيه معفاة من الضريبة و لديها مئة ألف أخرى و كومة كبيرة من الياقوت و الزمرد – و تنهد تافيرنر – لكن هذا كله ظنون و تخمين. لقد نجحتُ في ارهابه، و لكن هذا لا يثبت أي شيء؛ لأنه كان سيخاف حتى لو كان بريئاً. و على أية حال فأنا لا أجزم أنه فعل ذلك، أرى أن امرأة هي التي فعلتها، و لن لماذا لم تَرْمِ قنينة الأنسولين بعيداً أو تغسلْها؟

و التفت إلى الرقيب يخاطبه: ألا يوجد دليل من الخدم؟

- الخادمة زعمت أنهما كانا يحبان بعضهما.

- و ماذا جعلها تزعم هذا؟

- نظراته إليها و هي تصب القهوة له.

- هذا أمر لا تستند إليه محكمة، ألا توجد أحداث واقعية؟

- لم يلحظ أحد شيئاً من ذلك.

- لو كان بينهما شيء لرآه الخدم. أتدري؟ لقد بدأت أعتقد أنْ لا شيئ بينهما!

و نظر تافيرنر إليّ ثم قال: ارجِعْ إليها و تحدثْ معها، أريد أن أعرف انطباعك عنها.

ذهبت و أنا شبه كاره رغم أنني كنت متشوقاً لذلك.

*****




- 9 -
وجدت بريندا ليونايدز تجلس حيث تركناها، و لدى دخولي رفعت بصرها بحدة و سألتْ:

- أين المفتش تافيرنر؟ هل سيعود؟

- ليس بعد.

- من أنت؟

أخيراً سمعت السؤال الذي كنت أتوقعه طوال الصباح، و أجبتها بصراحة:

- أنا مرتبط بالشرطة، لكنني صديق للعائلة أيضاً.

- العائلة؟ إني أكرههم جمبعاً.

نظرت إليّ و فمها يتحرك و بدت عابسةً خائفةً و غاضبةً.

- كانوا دائماً يعاملونني بحقارة، منذ البداية. قالوا: لماذا أتزوج أباهم العزيز؟ و ماذا يهمهم من ذلك؟ لقد أعطاهم المال، لم تكن لديهم عقول لكي يجمعوا المال بأيديهم – و نظرت إليّ بجرأة - : لماذا لا يتزوج الرجل ثانية حتى لو كان كبيراً؟ إنه لم يكن طاعناً في السن، و قد أحببته كثيراً!

- فهمت. فهمت.

- لعلك لا تصدقني، لكنها الحقيقة. لقد سئمت الرجال. كنت أرجو بيتاً و عائلة و رجلاً يحنو علي و يقول قولاً جميلاً. أريستايد كان يؤنسني، و كان مرحاً، و ذكياً و كان يبتدع كل أسلوب حتى يجتنب كل هذه القوانين السخيفة! لقد فجعتُ بموته.

أسندت ظهرها إلى الأريكة و ابتسمت بسمة غريبة تدل على البلادة:

- كنت هنا سعيدة و آمنة، كنت أذهب إلى الخياطين المهرة الذين كنت أقرأ عنهم، و اريستايد قد أعطاني أشياء جميلة – و مدت يدها و هي تنظر إلى ياقوتة فيها – و كنت طيبة معه في المقابل.

رأيت يدها الممدودة كأنا مخلب القط، و سمعت صوتها الهادر، قالت و ما زالت تبتسم:

- ما العيب في ذلك؟ لقد كنت لطيفة معه و جعلته سعيداً!

و مالت إلى الأمام: هل تعلم كيف التقينا؟

و لم تنتظر جوابي:

- كان لقاؤنا في معطم شامروك. طلب بيضاً مقلياً على خبز توست، و عندما أحضرتُه له كنت أبكي. قال لي:((اجلسي، و أخبريني مالي يحزنك)) فقلت له:(( لا أستطيع محادثتك لأنهم سيفصلونني من العمل إن فعلت)) فقال:((لا، لن يفصلك أحد فأنا صاحب هذا المكان))! نظرت إليه. فكرت... إن الذي أمامي هو عجوز ضئيل الحجم غريب، لكن له شخصية جذابة!
و قصصت عليه الأمر كله! و أظنك ستسمع التفاصيل منهم ليقولوا لك بأنني سيئة، لكني لم أكن كذلك... لقد تربيت تربية حسنة، و كان لنا دكان رائع فيه أشغال و مطرزات. لم أكن يوماً من الفتيات اللاتي يتخذن أصحاباً من الشبان، أو يبيعن أنفسهن، لكن تيري كان مختلفاً... إيرلندي يسافر إلى ما وراء البحار، و لم يكن يكاتبني أبداً. كم كنت حمقاء!
و هكذا كان، وقعت في مشكلة تماماً مثل ما يصيب خادمة بائسة!... إريستايد كان رائعاً، وعدني أن أكون آمنة، قال إنه وحيد و أننا نستطيع أن نتزوج فوراً. و كان ذلك عندي كالحلم!
ثم عرفت أنه السيد ليونايدز العظيم الذي يمتلك أعداداً ضخمة من المحلات و المطعام و الأندية الليلية. كان ذلك مثل القصة الخيالية، أليس كذلك؟

قلت بتحفظ: نوع من القصص الخيالية.

- تزوجنا في كنيسة صغيرة في المدينة، ثم سافرنا للخارج. عاهدت نفسي أن أكون زوجة صالحة. كنت أطلب له كل أصناف تاطعام التي يشتهيها، و ألبس له الملابس التي يحبها، و أسعى دوماً إلى رضاه! و كان هو سعيداً. لكننا لم ننْجُ من عائلته، كانوا يأتون إليه فيعطيهم. العجوز دي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 8:40 pm

- 10 -
أفقْتُ تدريجياً فلم أكن أدرك في البداية أنني كنت نائماً.

كان شذى الأزهار في أنفي. رأيت نقظة كبيرة بيضاء تطير في الفضاء، ثم بعد بضع ثوان أدركت أنني كنت أنظر إلى وجه بشر، وجه معلّق في الهواء على بعد قدم أو قدمين مني. و بعد أن استعدت إدراكي أصبحتْ رؤيتي أكثر دقة، و ما زال الوجه يوحي أنه وجه عفريت: وجه مدوّر فيه حاجبان منتفخان و شعر إلى الوراء و عينان سوداوان صغيرتان كأنهما خرزتان، لكنه كان حتما وجه إنسان صغير نحيل. كانت تنظر إلى نظرات حادة. قالت:

- مرحباً.

أجبتها و عيناي تطرفان:

- مرحباً!

- أنا جوزفين.

كنت قد استنتجت ذلك من قبل. كنت أعلم أن جوزفين أخت صوفيا في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها. كانت طفلة قبيحة مع شبة واضح بجدها، و لعل فيها عقلاً مثل عقله أيضاً. قالت جوزفين:

- أأنت رجل صوفيا؟

أقررتُ، فقالت:

- لكنك جئت هنا مع رئيس المفتشين تافيرنر، لماذا جئت معه؟

- إنه صديقي.

- حقاً؟ أنا لا أحبه، و لن أقول له شيئاً.

- و ما الأشياء التي لن تقوليها له!

- الأشياء التي أعرفها... أعرف أشياء كثيرة، فأنا أحب كثرة السؤال.

جلست على ذراعي الكرسي و أمعنت النظر في وجهي فتضايقت منها، قالت:

- جدي قد قُتل، هل عرفت؟

- أجل، عرفت.

- لقد تسمم بالإي... سير... ين – نطقتْ هذه الكلمة بحذر شديد – ألا يثير ذلك الاهتمام؟

- بلى.

- أنا و يوستيس مهتمان كثيراً. إننا نحب القصص البوليسية، و قد تمنيت دائماً أن أكون فتاة تَحرٍّ، و الآن أنا أتحرى و أجمع الأدلة.

أحسست أنها كالغول، و عادت إلى الموضوع:

- و هل صاحِبُ رئيس المفتشين الذي جاء معه محقق أيضاً؟ تدل الروايات أنك تقدر على كشف المحققين الذين يلبسون ثيابهم المدنية من أحذيتهم، لكن هذا المحقق يلبس حذاء سويدياً من القماش!

- لقد تغير الأمر القديم.

- أجل. فقد جدّت أشياء كثيرة الآن. سنذهب و نعيش في بيت في لندن عند الجسر. أمي تريد ذلك منذ زمن. ستكون فرِحة جداً، و أبي لن يمانع أن نحمل كتبه أيضاً، لم يكن يطيق ذلك من قبل، و كم خسِر من المال من أجل ((جيزبيل))!

- جيزبيل؟

- نعم، ألم ترها؟

- ها! هل كانت مسرحية؟ لا، لم أرها، كنت مسافراً.

- إنها لم تُعرض طويلاً، و الحقيقة أنها عمل فاشل، لا أرى أن أمي من الصنف الذي يناسب دور جيزبيل، أليس كذلك؟

فكرت في ماجدا، لا تناسبها شخصية جيزبيل، لا في الثوب القرنفلي و لا في بدلتها، لكنّ لماجدا صوراً أخرى لم أرها بعد. و قلت بحذر:

- ربما لا.

- جدي كان يقول دائماً أنها ستفشل في جيزبيل. قال إنه لن يدفع جُنيهاً من أجل تمويل هذه المسرحيات التاريخية القديمة. تشاءم بها جميعاً لكن أمي كانت متحمسة للمسرحية. أما أنا فلم أحب المسرحية كثيراً، لم تكن مثل القصة التاريخية الأصلية؛ فجيزبيل لم تكن شريرة بل امرأة وطنية و لطيفة جداً، و هذا ما يجعلها تبعث على السأم. لا بأس في نهايتها، فقد ألقوها من الشباك و لكن الكلاب لم تنهشها، أظن أن ذلك مؤسف، أليس كذلك؟ كنت أحب أن أرى الكلاب و هي تأكلها!
أمي قالت بأن سوْق الكلاب إلى المسرح شيء مساحيل، و لكني لا أفهم لماذا، فأنت تستطيع أن تجعل الكلب يؤدي دوراً ما.

ثم قالت جوزفين كلمة مقتبسة:

- ((و قد أكلتْها كلها سوى راحتيْها))! لمَ لم تأكل الكلام راحتيها؟

- لا أدري.

لعلّ الكلاب كانت مروّضة؟ إن كلابنا ليست كذلك... تأكل كل شيء!

فكرتْ جوزفين في هذا اللغز التاريخي بضع لحظات، و قلت لها:

- إنني آسف لأن المسرحية فشلت!

- نعم. كانت أمي كئيبة، فالتعليقات كانت مخيفة، و عندما قرأتها انفجرت بالبكاء و كانت تبكي طوال اليوم، و ألقت بطبق الإفطار على غليدز فنطقت غليدز بكلمة غريبة.

- أرى أنك تحبين الدراما يا جوزفين!

- لقد شرّح الأطباء جثة جدي ليعلموا سبب موته.

- أأنت آسفة على موته؟

- ربما، و لكني لم أكن أحبه كثيراً؛ لأنه منعني من تعلّم رقص الباليه.

- هل كنت تريدين تعلم رقص الباليه؟

- أجل، و كانت أمي ترغب أن أتعلمه و والدي لم يكن يمانع، لكن جدي زعم أن هذا لن ينفعني!

ثم سألتني بطريقة عارضة:

- هل تحب هذا البيت؟

- ربما، لست متأكداً تماماً.

- أظنه سوف يًباع إلا إذا قررت بريندا أن تمكث فيه، و أظن أن العم روجر و كليمنسي لن يرحلا الآن.

سألتها باهتمام كبير:

- أوكانا سيرحلان؟

- نعم، كانا سيرحلان يوم الثلاثاء بالطائرة إلى مكان ما، و قد اشترت كليمنسي حقيبة خفيفة جديدة.

- لم أسمع أنهما كانا سيرحلان.

- أجل، فلا أحد يعرف و هما لم يخبرا أحداً بذلك، و كانا ينويان أن يتركا رسالة لجدي من ورائهما, لم يكن سفرهما أكيداً... كان ذلك بالأسلوب الذي كانت الزوجات يفعلنه حين يتركن أزواجهن في الروايات القديمة، لكنه الآن فعل سخيف!

- بالطبع. جوزفين، هل تعلمين لماذا كان عمك سيرحل؟

نظرت إلي نظرة ماكرة من طرف عينيها:

- أظنني أعلم... ربما من أجل شيء ذي علاقة بمكتب العم روجر في لندن، لعله اختلس شيئاً.

- لماذا تظنين ذلك؟

اقتربت جوزفين مني أكثر و همست في أذني:

- يوم تسمم جدي كان عمي روجر مع جدي في غرفته و أغلق الباب بعد فترة طويلة. كانا يتحدثان و يتحدثان، و قال عمي روجر بأنه لم يعُد يصلح للعمل و أنه سيتخلى عن جدي... ليس بسبب المال، لكن بسب إحساسه أنه غير جدير بالثقة. لقد كان في حال سيئة.

- جوزفين، ألم يقل لك أحد أبداً أنه ليس جميلاً أن تتنصتي وراء الأبواب؟

هزت جوفين رأسها بقوة:

- لقد قالوا لي طبعاً، لكنك إذا أردت أن تكتشف شيئاً فعليك أن تتنصّت وراء الباب. أنا واثقة أن رئيس المفتشين تافيرنر يفعل مثلي، أليس كذلك؟

فكرتُ في هذه الكلمة و أردفت جوزفين:

- و على أية حال فإن كان تافيرنر لا يفعل ذلك فإن الرجل الآخر يفعله، ذلك الرجل الذي يلبس الحذاء السويدي، كما أنهم يفتشون أدراج الناس و يقرؤون رسائلهم جميعاً و يفضحون أسرارهم كلها... إنهم أغبياء لا يعرفون كيف يفتشون!

كانت جوزفين تتكلم بتفاخر قليل، و كم كنت أحمق لأنني لم أفهم رأيها هذا، و جعلت الطفلة البغيضة تتكلم من جديد:

- إني و يوستيس نعرف كثيراً من الأمور، و أنا أعرف أكثر منه و لكني لن أخبره به. إنه يزعم أن النساء لا يستطعن أن يتفوقْنَ في أعمال التحري لكني أقول بأنهن يستطعن. سوف أدون كل شيء في دفتري، ثم، عندما تتحير الشرطة تماماً أتقدم أنا إليهم و أقول لهم:((أنا أعلم من فعل ذلك)).

- هل تقرئين قصصاً بوليسية مثيرة يا جوزفين؟

- كثيراً جداً.

- و أنت تعتقدين أنك تعرفين قاتل جدك؟

- نعم، لكن عليّ أن أكشف بعض الأدلة الأخرى – و سكتتْ قليلاً –.. هل يظن رئيس المفتشين تافيرنر أن بريندا هي التي ارتكبت الجريمة أ، أنها هي و لورانس معاً لأنهما يحبان بعضهما؟

- يجب ألا تقولي أشياء كهذه يا جوزفين!

- لم لا؟ إنهما يحبان بعضهما.

- إنك لا تعلمين، فلا تحكمي عليها.

- لم لا؟ هما يكاتبان بعضهما برسائل الحب.

- جوزفين، كيف عرفت ذلك؟

- لآنني قرأتها... رسائل عاطفية. لورانس رجل عاطفي، و كان خائفاً من القتال في الحرب. لقد ذهب إلى السراديب ليختبيء، و كان يعمل في إيقاد النار في السفن. حين كانت القنابل تسقط هنا كان وجهه يشحُب فأضحك منه كثيراً عندئذٍ، أنا و يوستيس!

لم أعرف ماذا أقول بعدها، و في تلك اللحظة توقفت سيارة في الساحة، فانطلقت جوزفين سريعاً إلى النافذة و ألزقت أنفها الأفطس بزجاج النافذة. سألتُها:

- من هذا؟

- إنه السيد جيتسكيل، محامي جدي. أظن أنه جاء ليناقش الوصية.

و أسرعتْ إلى خارج الغرفة و هي هائجة لكي تكمل أعمال التحري التي تنجزها. و جاءت ماجدا ليونايدز إلى الغرفة، و لشدة دهشتي اقتربتْ مني و أمسكت بيدي. ثم قالت:

- يا عزيزي، أشكر الله أنك ما تزال هنا، إني محتاجة إلى رجل.

و أفلتتْ يدي و ذهبتْ إلى كرسي له ظهر عالٍ و زحزحتْه قليلا عن مكانه و نظرت إلى نفسها في الرمآة، ثم رفعت علبة مزخرفة على طاولة و وقفت حزينةً تفتحها و تغلقها.

أدخلت صوفيا رأسها من الباب و قالت همساً تذكرّ ماجدا:

- جيتسكيل!

- أعرف.

دخلت صوفيا الغرفة بعد بضع لحظات يلحقها رجل عجوز ضئيل الحجم، و وضعت ماجدا علبتها المزخرفة و جاءت لمقابلته.

- صباح الخير يا سيدة فيليب. إنني ذاهب إلى الأعلى، فالظاهر أن هناك سوء فهم بخصوص الوصية. لقد كتب زوجك إليّ موحياً أن الوصية عندي، في حين كنت قد فهمت من السيد ليونايدز نفسه أن الوصية كانت في حوزته، لا أظنكم تعلمون شيئاً عنها، أليس كذلك؟

فتحت ماجدا عينيها بذهول:

- في شأن وصية الرجل المسكين؟ لا، قطعاً لا. لا تقل لي أن تلك الرمأة الشريرة في الطابق العلويّ قد أتلفتها.

هزّ المحامي أصبعه موبّخاً:

- و الآن يا سيدة فيليب. لا حاجة للظن الشيء، بل هو سؤال عن مكان الوصية!

- لكنه أرسلها إليك. أجل، أرسلها إليك حتماً بعد أن وقّعها، هو أخبرنا بذلك!

- أعتقد أن الشرطة قد قلّبوا أوراق أريستايد الخاصة. سوف أتناقش مع رئيس المفتشين تافيرنر في هذا.

و غادر الغرفة، فصرختْ ماجدا تخاطب صوفيا:

- لقد مزّقتْها يا حبيبتي. أنا على حق.

- هذا هراء يا أمي، إنها لم تكن لتفعل شيئاً غبياً كهذا.

- إنه ليس غبيّاً على الإطلاق: إذا لم تكن ثمة وصية فسوف ترث كل شيء!

- صه... ها هو جيتسيكل عاد مرة أخرى.

دخل المحامي الغرفة ثانية، و جاء معه رئيس المفتشين يتبعه فيليب. و قال جيتسكيل:

- لقد فهمت من السيدة ليونايدز أنه وضع الوصية في المصرف لتكون في مأمنٍ هناك.

هز تافيرنر رأسه نافياً:

- لقد اتصلت بالمصرف، ليس عندهم أية ورقة تخص السيد ليونايدز ما عدا سندات مالية معينة.

قال فيليب: إنني أتساءل إن كان روجر... او خالتي إيديث... و ربما صوفيا. هل تستطيع دعوتهم ليأتوا إلى هنا.

لم يكن روجر ذا فائدة حين دعي إلى الاجتماع. قال:

- هذا هراء، هراء بلا شك. والدي قد وقع الوصية و أعلن أنه سوف يرسلها بالبريد إلى السيد جيتسكيل في اليوم التالي!

قال السيد جيتسكيل و هو يستند إلى الكرسي مغمضاً عينيه نصف إغماض:

- إن لم تخني ذاكرتي فقد أرسلت له مسودّة وصية في الرابع و العشرين من تشرين الثاني من العام الماضي صغتها حسب إرشاد السيد ليونايدز نفسه، و قد وافق على المسوّدة و أعادها إلي، ثم أرسلت إليه بعد ذلك الوصية ليوقعها، و بعد أسبوع ذكرّته بأنني لم أستلم منه الوصية بعد توقيعها و تصديقها، و سألته إن كان يرغب في تعديلها، فردّ قائلاً بأنه راضٍ تماماً و سوف يرسل الوصية بعد توقيعها إلى المصرف الذي يتعامل معه.

قال روجر متلهفاً:

- هذا صحيح تماماً. كان ذلك في نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي. أتذكر يا فيليب حين جمعنا والدي ذات مساء جميعاً و قرأ الوصية علينا؟

التفت تافيرنر إلى فيليب ليونايدز:

- أتذكره يا سيد فيليب؟

- نعم.

- آنسة صوفيا؟

- نعم، أتذكر ذلك تماماً.

سأل تافيرنر:

- و ما هي بنود تلك الوصية؟

أوشك جيستيكل أن يُجيب المفتش بطريقته الدقيقة لكن روجر سبقه قائلاً:

- كانت وصية بسيطة تماماً، فقد ماتت إلكْترا و جويس فعادت حصتهما من التسوية لوالدي. و قتل ويليام ابن جويس في معركة في بورما فذهب المال الذي تركه لأبيه. و قد بقي فيليب و أنا و الأطفال الأقرباء وحدنا عنده ليس سوانا. و قد فصّل والدي وصيته: خمسون ألف جنيه بلا ضرائب إلى الخالة إيديث، و مائة ألف بلا ضريبة إلى بريندا، و هذا البيت لبريندا أو نشتري لها بيتاً مناسباً في لندن حسب رغبتها هي.
و أما البقية فتُقسم ثلاث حصص: واحدة لي، و واحدة لفيليب، و الثالثة تقسم بين صوفيا و يوستيس و جوزفين، و حصة الاثنين الأخيرين تبقى تحت الوصاية حتى يبلغا السن القانونية. أظن هذا صحيحاً، أليس كذلك يا سيد جيستيكل؟

- بلى، إنها بنود الوصية التي صغتها بالضبط.

- لقد قرأها الوالد علينا و سألنا إن كان لنا أية ملاحظة على هذه الوصية، فلم تكن لنا من ملاحظة.

قالت الآنسة دي هافيلاند:

- بريندا قدمت ملاحظة.

قالت ماجدا بتلذذ: نعم، قالت بأنها لا تطيق احتمال حبيبها العجوز أريستايد و هو يذكر الموت؛ لأن هذا يوقع في نفسها الشعور بالذعر، و هي لا تريد شيئاً من ماله إن هو مات!

و علرقت إيديث دي هافيلاند فوراً:

- كان ذلك اعتراضاً تقليدياً يتناسب مع طبقتها الاجتماعية.

كانت هذه كلمة قاسية و عنيفة من دي هافيلاند، و أدركت فجأة كم تكره إيديث دي هافيلاند بريندا!

قال المحامي جيستيكل:

- إنه توزيع عادل و معقول جدا لأملاكه.

- و ماذا حدث بعد قرباءة الوصية؟

روجر: بعد أن قرأها وقعها.

مال تافيرنر إلى الأمام سائلاً:

- كيف وقعها و متى؟

نظر روجر إلى زوجته كأنما يستنجدها، فتكلمت كليمنسي و قد بدا بقية العائلة راضين:

- تريد أن تعرف ما الذي حدث تماماً؟

- أرجوك يا سيدة روجر!

وضع حماي الوصية على درْج مكتبه و دعا أحدنا – أظنه روجر – ليقرع الجرس ففعل. حين جاء جونسن ليجيب الجرس طلب حميّ منه أن يذهب و يدعو خادمة الاستقبال جانيت وُلْمر، و عندما جاء الاثنان وقع الوصية و أمرهما أن يشهدا و يوقعا باسميهما الحقيقين.

قال السيد جيستيكل:

- ذاك هو الصواب، يجب أن يوقع الموصي الوصية في حضور شاهدين يوقعان في الزمان و المكان نفسه.

- و بعد ذلك؟

- شكرهما حماي و خرجا، و أخذ الوصية و وضعها في مغلف طويل و أعلن أنه سوف يرسلها إلى السيد جيستيكل في اليوم التالي.

نظر رئيس المفتشين تافيرنر حوله و قال:

- هل توافقون جميعاً على أن هذا سرد دقيق لما حدث؟

و سمعنا همسات موافقة. ثم سأل تافيرنر كليمنسي:

- كانت الوصية على المكتب كما قلتِ. كم كانت المسافة بين أيٍّ منكم و ذلك المكتب؟

- لم تكن المسافة قصيرة جداً. ربما كان يبعد عنه أقربنا أربعة أمتار أو خمسة.

- أكان السيد ليونايدز يجلس خلف المكتب و هو يقرأ الوصية عليكم؟

- نعم.

- و هل نهض من مكانه أو ترك الكتب بعد قراءة الوصية و قبل توقيعها؟

- لا.

- هل كان بإمكان الخادمين قراءة الوصية حين وقّعها كلاهما؟

- لا، فقد وضع حماي ورقة بيضاء على الجزء العلوي من الوثيقة.

فيليب: أجل، فما كُتب في الوصية لم يكن يهم الخدم.

و بحركة سريعة أخرج تافيرنر ظرفاً طويلاً و انحنى ليسلّمه للمحامي قائلاً:

- انظر إلى هذا و أخبرني ما هو؟

أخرج السيد جيستيكل وثيقة مطوية من الظرف. نظر فيها مذهولاً و قلبها بين يديه مرة تلو الأخرى:

- إنها مفاجأة لا أفهمها بتاتاً!... هل لي أن أسألك أين كانت هذه؟

- في الخزانة الحديدية بين أوراق السيد ليونايدز الأخرى.

سأل روجر: و لكن ما هذه؟ لـمَ كل هذه الضجة من أجلها؟

- هذه هي الوصية التي أعددتُها لوالدك ليوقعها يا روجر، و لكنها ليست موقعة!

- ماذا؟ أظنها مسوّدة.

- لا. لقد أعاد السيد ليونايدز المسوّدة لي، ثم صغت الوصية: هذه الوصية – و نقرها بأصبعه – و أرسلتها له كي يوقعها. و وفق شهادتكم فقد وقع الوصية أمامكم أجمعين و شهدها شاهدان، لكن هذه الوصية لم توقع!

صاح فيليب ليونايدز بقوة و جعل فمُه يهدُر:

- هذا مستحيل!

سأله تافيرنر:

- كيف كان بصر أبيك؟

- كان مصابا بالغلوكوما، و كان يضع نظارة سميكة عند القراءة.

- هل كان يضع هذه النظارة في ذلك المساء؟

- نعم، طبعاً، إنه لم ينزع نظارته إلا بعد أن وقع الوصية، أليس كذلك يا كليمنسي؟

- هذا صحيح تماماً.

- هل أنتم متأكدون أن أحداً لم يقترب من مكتبه قبل توقيع الوصية؟

قالت ماجدا و هي تغمض عينيها قليلاً:

- ترى لو أن أحداً يستطيع تصور ذلك مرة أخرى!

قالت صوفيا: لم يقترب احد من المكتب، و جدي جلس وراءه طوال الوقت.

- هل كان المكتب في نفس الموضع الذي هو فيه الآن؟ ألم يكن قريباً من الباب أو الشباك أو أية ستارة؟

- بل حيث هو الآن.

- إنني أجتهد أن أرى كيف تتغير أمكنة الأشياء، فلابد أن شيئاً قد تغير مكانه. لقد كان السيد ليونايدز عازماً أن يوقع الوثيقة التي قرأها لتوه عليكم.

روجر: ألا يمكن أن تكون التواقيع قد محيت؟

- لا يا سيد روجر. لابد أن تترك أثراً على ذلك. لعل هذه ليست الوثيقة التي أرسلها السيد جيتسيكل إلى السيد ليونايدز و التي وقعها في حضوركم.

قال السيد جيتسيكل: كلا، بل إن هذه هي الوثيقة الأصلية. في الورقة شق صغير في أعلاها إلى اليسار على شكل طائرة، لقد لاحظته آنذاك.

نظر الحاضرون إلى بعضهمُ البعض بذهول و أكمل جيتسيكل:

- إنها ظروف غريبة جداً لم يسبق لها مثيل خلال عملي من قبل!

قال روجر: إن الأمر كله غريب! كنا جميعاً هناك فكيف يحدث ذلك؟

سعلت الآنسة دي هافيلاند سعلة جافة و قالت:

- هذا كلام لا يجدي قطّ، كيف تقول في شيء قد حدث إنه لم يحدث... و ما هو الموقف الآن؟ هذا ما أودّ معرفته.

أصبح جيتسيكل في الحال محامياً حذراً. قال:

- تجب دراسة الموقف بحرص. إن هذه الوثيقة تبطل قطعاً كل الوصايا التي قبلها، و ثمة عدد كبير من الشهود الذي رأوا السيد ليونايدز يوقع بحسن نية ما كان يظنه يقيناً أنه هذه الوصية. هذا عجيب! إنها مشكلة قانونية صغيرة. لا بأس.

نظر تافيرنر إلى ساعته:

- أخشى أنني أؤخركم عن غدائكم!

سأله فيليب:

- ألا تبقى و تأكل الغداء معنا يا حضرة المفتش؟

- شكراً لك يا سيد ليونايدز، و لكني سأقابل الدكتور غراي في سوينلي دين.

التفت فيليب إلى المحامي:

- هل تتغدى معنا يا جيتسيكل؟

- شكراً لك يا فيليب.

نهضنا جميعاً. تقدمتُ إلى صوفيا و همستُ:

- هل أمكث أم أغادر؟

- أرى أنه من الأفضل أن تغادر.

و انسللْتُ بهدوء خارج الغرفة على أثر تافيرنر. كانت جوزفين تمشي جيئة و ذهاباً قرب باب أخضر يؤدي إلى الساحة الخلفية، و كانت تبدو مسرورة جداً من شيء ما. قالت:

- الشرطة أغبياء!

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال:

- ماذا كنت تفعلين يا جوزفين؟

- كنت أساعد ناني.

- بل كنت وراء الباب تتنصّتين.

نظرت جوزفين إليها باشمئزاز ثم انسحبت. و قالت صوفيا:
- هذه الطفلة جزء من المشكلة!

*****




- 11 -
وصلت إلى غرفة مساعد المفوض في سكوتلانديارد لأجد تافيرنر يُنهي سرده لتفصيلات التحقبيق قائلاً:

- و النتيجة أنني غادرتُهم و لم أحصل منهم على أي شيء! لا دوافع، لا أحد مهم كان معسراً، كل ما علمناه ضد بريندا و صديقها الشاب هو أنه كان يرمقها بنظراته عندما كانت تسكب له القهوة.

قلتُ: لا عليكم يا تافيرنر، يمكنني أن أضيف شيئاً أفضل من ذلك.

- حقاً؟ حسناً يا تشارلز، ماذا عندك؟

جلست أتحدث و قد أسندت ظهري إلى المقعد:

- كان روجر و زوجته يخططان للرحيل يوم الثلاثاء القادم، و قد التقى روجر مع والده لقاءً عاصفاً في اليوم الذي توفي فيه العجوز. اكتشف العجوز ليونايدز شيئاً غير طبيعي، و كان روجر يعترف أنه يستحق اللوم.

احمرّ وجه تافيرنر:

- من أين حصلت على هذه المعلومات؟ إن كنت حصلت عليها من الخدم...

- ماذا تقصد بقولك؟

- و إني أعترف – وفق القواعد المقررة في القصص البوليسية – بأنه – أو بالأصحّ بأنها – قد تفوقت على الشرطة. ثم إن التحري الخاص بي لديه أشياء خاصة ما يزال يحتفظ بها لنفسه.

فتح تافيرنر فمه ثم سكت مرة أخرى. أراد أن يسأل أسئلة كثيراً لكنه أدرك أن من الصعب أن يبدأ. ثم قال:

- روجر! أهو روجر ذلك الرجل؟

كرهت أن أفضي بهذا السر، فقد كنت أحب روجر ليونايدز. كرهت – و أنا أتذكر غرفته المريحة الجميلة و سحر الرجل الودود – أن ينطلق رجال العدالة علىأثره فيعتقلوه. ربما تكون أخبار جوزفين كلها غير موثوقة، لكنني – في الحقيقة – لم أكن أظن ذلك. قال تافيرنر:

- إذن الطفلة أخبرتك ذلك؟ إنها تبدو طفلة واعية لما يدور في ذلك البيت!

قال والدي معلّقاً:

- الأطفال هكذا في العادة.
لو كان هذا الخبر يقيناً فسوف يتغير الموقف كله. لو كان روجر كما زعمت جوزفين:((يختلس)) أموال شركة الغذاء، لو كان الرجل العجوز قد كشف أمره فيلزم روجر و زوجته اسكات العجوز ليونايدز و مغادرة إنكلترا قبل اكتشاف الحقيقة... ربما يكون روجر قد ارتكب هذه الجريمة!

تم الاتفاق على إجراء التحقيق في شؤون شركة التجهيز الغذائي فوراً دون تأخير. قال والدي:

- لو أن ذلك الرجل غادر لكانت كارثة شاملة. إنها مسألة تهم أناساً كثيراً، فهي تتعلق بملايين الناس.

- لو كانت الشركة في أزمة مالية أو ورطة فسوف تتضح الفرضية: الأب يستدعي روجر، ينهار روجر و يعترف. بريندا ليونايدز كانت خارجاً في السينما، فما كان على روجر إلا أن يغادر غرفة أبيه إلى الحمام و يفرغ زجاجة الأنسولين و يضع فيها محلولاً خالصاً من الإيسيرين ثم يكون ما كان.

أو أن زوجته فعلتْها: صعدت إلى الجناح الأخر بعد أن عادت إلى البيت ذلك اليوم مدعيةً أنها ذاهبة لتحضر غليون روجر الذي تركه هناك. كان بإمكانها أن تصعد هناك لتغير المحلول قبل أن تعود بريندا إلى البيت لتعطيه الحقنة. إنها رابطة الجأش و تقدر على فعل ذلك!

أومأت برأسي و قلت:

- نعم. كأني أراها هي من فعل الجريمة، فإن لديها قدرة عجيبة على ضبط نفسها و لجم انفعالاتها، و لا أظن أن روجر يخطر بباله السم وسيلة؛ لأن حيلة الأنسولين فيها رائحة أنثوية!

قال والدي بغلظة:

- كثير من الرجال يستعملون السم في القتل.

تافيرنر: أعرف يا سيدي، أتراني جاهلاص؟ لكني لا أظن روجر من هذا الصنف.

- و هل تذكر بريتشارد يا تافيرنر؟ لقد كان بريتشارد مازجاً ماهراً للسم!

- إذن لنفترض أنهما كانا مشتركين فيها معاً.

قالها تافيرنر و انصرف، و قال والدي:

- أيخطر ببالك يا تشارلز أنها تشبه الليدي ماكبث في رواية شكسبير؟

تخيلت المشهد: المرأة الجميلة تقف قرب النافذة في غرفة متقشفة، و قلت:

- ليس تماماً، فقد كانت الليدي ماكبيث امرأة جشعة كثيراً، و كليمنسي ليونايدز غير جشعة. أظن أنها لا تهتم بالمال و لا تحرص أن تحوزه و تملكه.

- لكن ألا يهمها نجاة زوجها و سلامته؟

- بلى، و ربما تكون طبعاً قاسية القلب.
... هذا ما قالته صوفيا:(( قسوة القلب))!

رفعت بصري لأرى الرجل العجوز يراقبني:

- فيم تفكر يا تشارلز؟

و لكني لم أخبره حينئذٍ.
***
دُعيت اليوم التالي فوجدت والدي و تافيرنر معاً. كان تافيرنر مسروراً قليلاً، و قال والدي:

- إن شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية.

قال تافيرنر:

- أجل... إنها عرضة للانهيار في أية لحظة.

قلت: علمت أن الأسهم نزلت في الليلة الماضية نزولاً حاداً، لكنها عادت و ارتفعت هذا الصباح.

قال تافيرنر: يجب أن نتحقق بحذر شديد. لا نريد تحقيقات مباشرة تسبب الذعر أو تروع صاحبنا الذي يريد الفرار، فلدينا مصادر خاصة و الأخبار أكيدة تماماً. شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية و قد تعجز أن تفي بالتزاماتها. هي تعاني من فساد الإدارة منذ عدة سنين.

- إدارة روجر ليونايدز؟

- نعم، إن سلطته قوية كما تعلم.

- و قد اختلس مالاً...؟

- لا، لا نظن أنه فعلها. قد يكون روجر قاتلاً و لكننا لا نعتقد أنه محتال، و بصراحة لقد كان أبله لا يملك أدنى حد من الحكمة، كان ينطلق حين يلزمه أن يتوقف، و يتردد و يتراجع حيث يجدر به الانطلاق و التقدم، و كان يعتمد على رجال و يوكل إليهم أعمالاً هم آخر من توكل إليهم مثلها. إنه رجل يثق بالناس الذي لا يستحقون الثقة، و في كل مرة و كل مناسبة يعمل العمل الخطأ!

قال والدي: رأيت رجالاً من صنفه، لكنهم ليسوا أغبياء في الحقيقة. إنهم يخطئون في الحكم على الرجال فحسب، و يتحمسون في وقتٍ لا ينبغي فيه الحماس.

قال تافيرنر:

- إن رجلاً مثل روجر لا يجب أن يسند إليه عمل من الأعمال بتاتاً.

- لعله لم يكن ليصبح ذلك لولا أنه ابن أريستايد ليونايدز.

- كانت الشركة حين عهد العجوز إليه بها شركة ناجحة، و كان ينبغي أن تصبح ((منجم ذهب)). لكنني أراه جلس مستريحاً و ترك الشركة تدير نفسها!

هز أبي رأسه و قال:

- لا. لا شركة تدير نفسها بنفسها، في كل شركة قرارات يجب اتخاذها: فصل هذا و توظيف ذاك، و أسئلة حول سياسة الشركة، أما روجر فيبدو أن أجوبته كانت دائماً خطأ!

قال تافيرنر:

- هذا صحيح. إنه رجل مخلص: أبقى على الموظفين الفاشلين لأنه يميل إليهم أو لأنهم كانوا يعملون في الشركة منذ دهر بعيد! ثم كانت له أحياناً أفكار طائشة غير عملية و كان يصرّ على تجربتها رغم نفقاتها الباهظة.

ألحّ والدي قائلاً:

- و لكن ألا توجد مخالفة جنائية؟

- لا مخالفة جنائية.

سألتُه: إذن فلمَ يقترف جريمة القتل؟

- ربما كان أحمق لا محتالاً، لكن النتيجة واحدة. كان الشيء الذي ينقذ هذه الشركة من الإفلاس مبلغاً ضخماً يتم تدبيره قبل – فتح دفتره و قرأ – ... قبل الأربعاء القادم على أبعد تقدير.

- مبلغ كالذي يرثه حسب وصية والده، أليس كذلك؟

- بالضبط.

- لكنه لم يكن ليستطيع الحصول على ذلك المبلغ نقداً.

- لكنه سيسهّل له الحصول على اعتماد أو قرض مصرفي.

أومأ الرجل العجوز برأسه موافقاً، قال:

- ألم يكن أسهل عليه أن يذهب للعجوز ليونايدز فيطلبَ منه مالاً؟

- لقد فعل لاذلك، هذا ما سمعتْه الطفلة، فلعل العجوز رفض صراحة أن يدفع خشية من الخسارة ثانية. لقد ذهب روجر إليه.

أظن أن تافيرنر كان على حق، فقد رفض أريستايد لونايدز دعم مسرحية ماجدا و قال بأنها لن تجني أرباحاً في شباك التذاكر. ثم تبيّن أنه على حق. كان ليونايدز رجلاً كريماً مع عائلته لكنه لا يضيّع المال في مشروعات غير رابحة، كما أن الشركة يساهم فيها الآلاف و ربما مئات الآلاف. لقد رفض صراحة، و ليس أمام روجر لكي يتجنب الإفلاس إلا وفاة والده. نعم، لابد من دافعٍ بالتأكيد.

نظر والدي في ساعته و قال:

- طلبت منه أن يحضر، سيكون هنا الآن في أية لحظة.

- روجر؟

- نعم.

همستُ:

- قالت العنكبوت للذبابة:((هلاّ أتيتِ إلى بيتي؟)).

نظر تافيرنر إلي مندهشاً! قال بقسوة:

- سنأخذ منه حذرنا و نحترس.

بدأ العمل، و حضر الكاتب. و في الحال قرع جرس المكتب ثم، بعد بضع دقائق، دخل روجر ليونايدز الغرفة متلهفاً مرتبكاً، و تعثرت قدمه بأحد الكراسي فتذكرت كلباً ضخماً ودوداً و في الوقت نفسه قررت جازماً أنه ليس هو الذي نفذ العمل و بدل زجاجة الإيسيرين بلأنسولين، إذن لكان يسكرها أو يسكبها أو ترجف يده و يفشل في الحيلة بطريقة أو أخرى. لا... لا شك أن كليمنسي هي الفاعل و إن كان روجر متهماً بعلمه هذا العمل.

تدفقت الكلمات من فمه:

- هل أردت رؤيتي؟ هل وجدت شيئاً؟ مرحبا يا شارلز. لم أرك. جميل منك أن تأتي هنا. و لكني أرجوك أن تخبرني يا سير آرثر...

إنه رجل لطيف، و لكن كثيراً من القتله كانوا رجالاً لِطافاً، و ذلك ما كان يؤكده أصدقاؤهم المذهولون بعد جرائمهم. و ابتسمت محيّياً.

كان أبي رجلاً حازماً هادئاً يحترس في حديثه، فجرت كلماته عفوية: الشهادة.. سوف تدون... لا إكراه... محامٍ...

أزاح روجر ليونادز كل هذه الأشياء جانباً غير صابر، و رأيت ابتسامة المفتش تافيرنر الساخرة على وجهه فعرفت ما يخطر باله، كان يقول في نفسه:((إنهم واثقون من أنفسهم. هؤلاء الأشخاص لا يخطئون. إنهم أذكياء!)).

و جلست في زاوية من الزوايا و أضغيت. قال والدي:

لقد دعوتْك هنا يا سيد روجر لا من أجل أن أعطيك معلومات جديدة و لكن لأطلب منك بعض المعلومات التي كتمتها من قبل.

بدا روجر ليونايدز متحيراً:

- كتمتها؟ لكني أخبرتك بكل شيء، كل شيء دون كتمان!

- لا، لقد جرى بينك و بين الفقيد حديث في مساء يوم مقتله، أليس كذلك؟

- بلى بلى، شربت معه الشاي. لقد أخبرتكم بذلك.

- أجل، أخبرتنا بذلك، لكنك لم تخبرنا ماذا دار بينكما.

- لقد... كان... حديثاً ليس غير.

- فيم تحدثتما؟

- في الأمور اليومية: البيت، صوفيا...

- فماذا عن شركة التجهيز الغذائي؟ هل ذكرتماها؟

تمنيت ساعتئذٍ أن تكون جوزفين قد اخترعت القصة كلها، لكن هذا الأمل سرعان ما تلاشى، فقد تغير وجه روجر، تغير في لحظة واحدة إلى شيء قريب من اليأس، و قال:

- يا إلهي!

و جلس على كرسي و غطى وجهه بيديه. ابتسم تافيرنر كالقطة المطمئنة:

- أتعترف يا سيد روجر أنك لم تكن صريحاً معنا؟

- كيف عرفتم بذلك؟ كنت أظن أنْ لا أحد كان يعلمه. لا أفهم كيف علمه غيري؟

- لدينا وسائلنا الخاصة في معرفة هذه الأمور يا سيد ليونايدز.

و سكت سكتة مهيبة ثم قال:

- أظن أنك تفهم الآن. من الأفضل لك أن تخبرنا بالحقيقة.

- نعم، نعم. بالطبع سأخبركم. ماذا تريدون أن تعرفوا؟

- هل صحيح أن شركة التجهيز الغذائي توشك أن تنهار؟

- نعم. لقد فات الآوان فلا أستطيع إنقاذها الآن! إن الانهيار آتٍ لا محالة! ليت أبي مات دون أن يعرف ذلك! إنني أشعر بالعار و الخزي الشديد...

- و هل هناك احتمال لحدوث مقاضاة جنائية؟

انتصب روجر في مكانه متحداً:

- لا. سيكون إفلاس لكنه إفلاس شريف: سندفع للمساهمين عشرين شلنا لكل جنيه ناهيك عن موجوداتي الشخصية. إن الخزي الذي أصابني سببه أنني خذلت والدي! لقد كات يثق بي و عهد بهذا العمل إليّ و هو أكبر اهتماماته. كان العمل المفضل لديه. إنه لم يتدخّل يوماً و لا سألني عما كنت أفعله. كان يثق بي لكنني خذلته!

قال أبي بجفاف:

- هل قلت:((لا توجد مقاضاة جنائية))؟ إذن فلم خططت أنت و زوجتك للسفر دون إعلان أو خبر؟

- و تعرف هذا أيضا؟

- أجل يا سيد ليونايدز.

انحنى روجر إلى الأمام:

- لم أكن أستطيع مواجهته بالحقيقة، خشيت أن يفهم أني أطلب منه مالاً كأني أستنجد به ليوقفني على قدميّ مرة أخرى. لقد.. لقد كان يحبني كثيراً، و كان سيساعدني، لكني لم أستطع... لم أستطع المواصلة. كانت المواصلة تعني ورطة مرة أخرى. إني لا أصلح لهذا العمل، فليست عندي القدرة عليه. أنا لست مثل أبي. كنت أعلم بنفسي منه، لقد حاولت فلم أنفع. كنت تعيساً جداً! يا إلهي! إنك لا تعرف تعاستي التي ذقتها و أنا أحاول الخروج من المشكلة و أرجو رضاه و آمل ألاّ أضطر للبوح بالأمر للرجل العجوز! و لكن لم يَبْقَ أي أمل في تجنب الكارثة.
زوجتي كلمينسي، تفهّمت الأمر و وافقتني الرأي، و فكرنا في هذه الخطة معاً. لم نقل لأحد شيئا: نهرب و ندع العاصفة تثور.
كنت ساترك لأبي رسالة أفصّل الأمر له فيها و كيف أنني كنت أشعر بالخزي، و أتوسل إليه أن يسامحني! كان طيباً معي دائماً!
لكنّ الوقت كان متأخراً إن هو أراد أن يفعل شيئاً. ما كنت أريد منه المساعدة، كنت أريد أن أبدأ من جديد في مكان آخر. أحيا حياة بسيطة متواضعة: أزرع البُنّ و الفواكه لتكون عندي ضروريات الحياة فقط. و كان ذلك صعباً على زوجتي، لكنها أقسمت ألا تمانع. إنها رائعة. رائعة دون ريب!

قال أبي بجفاء:

- و ما الذي جعلك تغير رأيك؟

- أغيّر رأيي؟


- نعم، لماذا عزمت أن تذهب إلى أبيك و تطلب منه المساعدة المالية بعد كل هذا؟

حَدَقَ روجر إلى أبي و قال مندهشاً:

- لكني لم أفعل ذلك.

- هيّا يا سيد ليونايدز.

- لقد أخطأ من أبلغكم ذلك. أنا لم أذهب إليه، بل هو أرسل في طلبي. كأنه سمع – بطريقة ما – من أهل المدينة. لعلها كانت إشاعة، لكنه كان يعلم ما يجري حوله دائماً. صارحني أبي، ثم، أخبرته بكل شيء و قلت له بأن رحيلي ليس بسب المال و إنما إحساسي أني خذلته بعد أن وثق بي!

ثم تغير صوت روجر و جعل يتكلم بانفعال:

- لا يمكنك أن تتخيل كم كان الرجل العجوز طيباً معي. لم يوبخني، بل كان لطيفاً. أخبرته أنني لا أريد المساعدة و أفضّل ألا يساعدني و أنه من الخير أن أرحل كما كنت أخطط، لكنه ما كان ليضغي إليّ. لقد أصر على إنقاذي و على دعم شركة التجهيزات الغذائية لتستأنف عملها من جديد.

قال تافيرنر بحدة:

- أتريدنا أن نصدق أن والدك كان ينوي مساعدتك مادياً؟

- كان ينوي ذلك يقيناً، و قد أوصى سماسرته هنا و هناك من أجل مساعدتي.

قرأ روجر الشك في عيون الرجلين، فاحمرّ وجهه و قال:

- ما زلت أحتفظ بالرسالة. كنت سأرسلها بالبريد، لكني نسيتها من... من الصدمة و الفوضى! ربما أحضرتها و لعلها في جيبي الآن.

أخرج محفظته و بدأ يبحث فيها، و أخيراً وجد ما كان يريده. أخرج ظرفاًمجعداً عليه طابع، و كان عنوانه:((شركة غريتو ريكس و هانبري)). قال:

- فلتقرأْها بنفسك إن كنت لا تصدقني.

فتح والدي الرسالة، و ذهب تافيرنر وراءه. لم أر الرسالة وقتئذٍ لكني رأيتها من بعد: كانت تطلب من ((شركة غريتو و هانبري)) أن تسيّل استثمارات معينة و ترسل في اليوم التالي أحد أعضاء الشركة من أجل شروط معينة تتعلق بشؤون شركة التجهيز الغذائي. كان السيد أريستايد ليونايدز يتخذ الإجراءات اللازمة إيقاف الشركة على قدميها مرة أخرى.

احتفظ تافيرنر بالرسالة قائلاً:

- سنعطيك وصلاً بهذه الرسالة يا سيد ليونايدز.

أخذ روجر الصكّ و نهض قائلاً:

- هل من شيء آخر؟ هل فهمتم الآن الأمر كيف كان؟

قال تافيرنر:

- هل أعطاك السيد ليونايدز هذه الرسالة ثم غادرته، ماذا فعلت بعد ذلك؟

- رجعت سريعاً إلى جناحي الخاص في المنزل. كانت زوجتي قد دخلت لتوها فأخبرتها بنية والدي و كيف كان رائعاً. إنني – في الحقيقة – لم أعلم ماذا كنت أفعل!

- ثم مرض والدك، بعد كم من الوقت حدث ذلك؟

- دعني أتذكر... ربما نصف ساعة، أو ساعة. جاءت بريندا مسرعة خائفة، قالت بأنه يبدو غريباً. و قد... و قد انطلقت معها، لكني أخبرتكم بكل ذلك من قبل.

- خلال زيارتك الأولى لجناح والدك. هل ذهبت إلى الحمام المجاور لغرفته؟

- لا أظن. لا... لا... إني لم أفعل ذلك قطعاً. لماذا؟ لا. لا يمكن أن تظنوا أنني..

هدأ والدي مشاعر السخط المفاجئة. نهض و صافحه قائلاً:

- شكراً لك يا سيد ليونايدز! لقد ساعدتنا كثيراً، لكنْ كان يجب أن تخبرنا بهذا من قبل.

أغلق الباب وراء روجر. و نهضتُ لأنظر إلى الرسالة فوق طاولة والدي فيما رددّ تافيرنر متمنياً:

- يمكن أن تكون مزورة.

قال والدي: ربما. لكني لا أظن ذلك، علينا أن نقبل بها تماماً كما هي.
كان العجوز ليونايدز مستعداً ليخرج ابنه من هذه الورطة بطريقة فعّالة و هو ما يزال حياً بأفضل مما يستطيع روجر عمله بعد موته، لا سيّما بعد أن أصبح معروفاً الآن أن أحداً لم يجد الوصية فغدا نصيب روجر مشكوكاً فيه، و هذا يعني التأخير و العقبات، و حسب ما هي الحال عليه الآن فإن الكارثة قادمة! لا يا تافيرنر، ليس لدى روجر ليونايدز أو زوجته دافع لقتل العجوز. بل على العكس من ذلك...

سكت أبي و كرر كلمته الأخيرة متأملاً كأن فكرة خطرت له فجأة. سأله تافيرنر:

- ما الذي يدور في ذهنك يا سيدي؟

- لو أن أريستايد ليونايدز عاش 24 ساعة أخرى لكان روجر بخير! لكنه لم يعش 24 ساعة، مات فجأة بصورة مثيرة خلال ساعة أو أكثر قليلاً!

- هل تظن أن أحداً في البيت كان يسعى لإفلاس روجر؟ شخص له مصلحة مضادة، ألا ترى هذا؟

سأل والدي:

- ما هي حقيقة الوصية؟ من الذي يرث أموال ليونايدز في الواقع؟

تنهد تافيرنر عميقاً و قال:
- أنت تعلم مهنة المحاماة: المحامون لا تسمع منهم جواباً صريحا. هناك وصية سابقة كتبها حين تزوج بريندا. ثم هذه الوصية تقسم لبريندا النصيب نفسه، و أقل منه للآنسة دي هافيلاند و الباقي بين فيليب و روجر. لو لم تكن هذه الوزصية موقعة فإن الوصية القديمة ستكون معتمدة لكن الأمر يبدو صعباً. أولاً: إن كتابة الوصية الجديدة قد أبطلت السابقة، و عندنا شهود على إمضائها، و هناك ((نية الموصي)). لو تبين أنه مات و لم يوص إذن تفوز الأرملة بحصة مدى الحياة على أية حال!

- إذن فلو اختفت الوصية فإن بريندا ليونايدز هي أكثر الأشخاص انتفاعاً، أليس كذلك؟

- بلى. لو كان هناك خداع فلعلها تكون متورظة فيه. و من الواضح أن في الأمر خدعة، لكني لا أعلم كيف هي؟

لم اكن أعرف أنا الآخر. أظن أننا كنا حمقى؛ لأننا كنا ننظر للأمر من الزاوية الخطأ.

*****




- 12 -
خرج تافيرنر و مازلنا صامتْين. ثم قلت بعد برهة:

- كيف يكون شكل القتلة يا أبي؟

نظر الرجل العجوز متأملاً. كنا نفهم بعضنا جيداً ففهم ما كنت أفكر فيه حين سألته. و أجابني بجدية تامة:

- أجل. هذا مهم جدا بالنسبة لك، فقد أصبح القتل فريباً منك، فما عاد ممكنا أن نتظر إليه بعين المراقب البعيد.

كنت أهتم بعض القضابا المثيرة في المباحث الجنائية، لكني كنت – كما قال أبي – أطلّ عليها من بعيد. أما الآن فقد صار الأمر قريباً مني للغاية. و لا بد أن صوفيا قد أردكت ذلك بسرعة أكثر مما فعلت.

قال الرجل العجوز:

- لا أدري إن كنت أنا الذي ينبغي أن تسأله، أستطيع أن أوصلك باثنين من أطباء النفس الذين يؤدون أعمالاً لنا و تافيرنر يمكن أن يقدم لك بعض المعلومات الداخلية، و لعلك تريد أن تسمع رأيي أنا بسب خبرتي في المجرمين، أليس كذلك؟

قلت بامتنان:

- نعم، هذا ما أريده.

رسم والدي بأصبعه دائرة صغيرة على الطاولة:

- ما هو شكل القتلة؟

و ابتسم بسمة باهتة كئيبة و هو يضيف:

- بعضهم كان لطيفاً جداً.

لعلّي جفلتُ قليلاً. و استمر والدي قائلاً:

- نعم. كانوا لِطافاً مثلك و مثلي و مثل الرجل الذي خرج الآن روجر ليونايدز. القتل جريمة غير محترفَة. إنني أتحدث عن نوع الجرائم التي تفكر فيها و ليس جرائم العصابات. أشعر أحيانا كثيرة أن هؤلاء المجرمين اللطاف فوجئوا بجريمة القتل فاضطروا أن يرتكبوها بطريقة عارضة تقريباً، كأن يُحصَروا – مثلاً – في زاوية ضيقة أو أنهم يريدون شيئاً بإلحاح شديد كالمال أو المرأة، فيقتلون من أجلهما. إن الضمبير ساعتئذٍ يتعطل لديهم. الطفل يترجم رغبته في العمل دون وخز الضمير، و الطفل الذي يغضب على قطته يقول:((سوف أقتلك))، و يضرب رأسها بمطرقة، ثم يحزن لأن القطة قد ماتت. كم من رضيع يحاولون أخذ رضيع من عربته ليغرقوه لأنه يلفت الإنتباه أو يعكّر ملذاتهم. إن الأطفال يعرفون في مرحلة مبكرة جداً أن هذا ((خطأ)) فإن فعلوه عوقبوا، لكن كثيراً من الناس لا ينضجون إنفعالباً بالقدر الكافي: يدركون أن القتل عمل خاطئ لكنهم لا يحسون به. لا أعتقد – حسب تجرِبتي – أنني رأيت قاتلاً أصابه الندم حقاً، بل هو يبحث عن تعلليل لما ارتكبه متجاوزاً نفسه: ((كان ذلك هو الطريق الوحيد))، أو ((هو – الضحية – الذي سعى إلى حتفه))... إلخ

- لو كان أحد يكره العجوز منذ زمن بعيد، فهل يكون الكره سباً لقتله؟

- كراهية فحسب؟ هذا بعيد جداً حسب ظني...

و نظر إليَّ بفضول قائلاً:

حين تقول:((كراهية)) فإنني أظنه أنك تقصد أن الحب قد انقضى. كراهية الغيرة أمر مختلف؛ لأنه هذه تنشأ من التعلق و الإحباط. الناس يقولون بأن كونستانس كِنْت كانت تحب أخاها الرضيع الذي قتلته حباً كبيراً، لكننا نظن أنها كانت تريد نزع انتباه و محبة الآخرين له. الناس في الغالب يقتلون من يحبون أكثر من قتلهم من يكرهون؛ لأن الذين تحبهم هم وحدهم الذين يستطيعون أن يجعلوا حياتك لا تطاق!
لكن هذا لا يساعدك كثيراً، أليس كذلك؟ كأن الذي تريده يا تشارلز هو علامة ما أو إشارة تساعدك في كشف القاتل من بين أهل البيت الذي يبدون أناساً عاديين يبعثون على السرور، أليس كذلك؟

- نعم، هذا هو ما أريده.

- و هل ترى بينهم صفة مشتركة؟

و سكت قليلاً و هو يفكر ثم قال:

- لو كان كذلك فإنني أميل إلى القول بأنها الغرور.

- الغرور؟

- أجل، لم أَرَ قاتلاً غير مغرور. إن الغرور هو الذي يؤدي إلى كشفهم غالباً، ربما يخافون القبض عليهم، لكنهم لا يستطيعون كفّ نفوسهم عن التباهي و الاختيال، و هم عادة يكونون متأكدين أنهم أذكياء لا يمكن أن يمسك بهم أحد، و هنا شيء آخر: إن القاتل يريد أن يتحدث.

- يتحدث؟

- أجل، إن القاتل حين يقتل يصير في عزلة شديدة، فهو يحب أن يصارح أحداً بكل شيء، لكنه لا يستطيع. و هذا يجعله يريد أن يخبر بالمزيد، و هكذا: إن كان لا يستطيع أن يقول كيف فعل هذا فإنه يستطيع أن يتحدث عن القتل نفسه و يناقشه و يطرح نظريات لتدرسها.
لو كنت مكانك يا تشارلز لنتبهت لهذا الأمر. اذهب هناك مرةً أخرى و اقعدْ بينهم و اختلطْ بهم جميعاً و اجعلْهم يتحدثون. لن يكون عملاً سهلاً، و سواء كانوا مرجمين أو أبرياء فسيكونون سعداء بفرصة التحدث مع رجل غريب؛ لأنهم سيقولون لك أشياء لا يقولونها لبعضهم، و لعلك تستطيع أن تتبين الاختلاف، فالذي يريد أن يكتم شيئا في نفسه لا يطيق بالطبع الحديث معك، و كان رجال الاستخبارات يدركون ذلك بالطبع أيام الحرب. لو أنك أُسِرْتَ ستفشي اسمك و رتبتك و رقمك العسكري و لا شيء غيرها. أما الذي يحاولون إعطاء معلومات مزيفة فإن ألسنتهم تزل دائماً. فلتجعل أهل البيت يتحدثون يا تشارلز و راقب فيهم زلة اللسان أو لمحات الكشف عن الذات.

أخبرتُه عندها أن صوفيا تحدثت عن القسوة في العائلة، و ذكرتْ أنواعاً مختلفة منها، فاهتم بذلك اهتماماً كبيراً و قال:

- أجل، إن لدى فتاتك شيئاً في هذا الأمر، إن الصفات الوراثية شيء يثير الاهتمام. خذ على سبيل المثال قسوة دي هافيلاند، و ما يمكن أن نسميه عديمية الضمير عند ليونايدز. إن عائلة هافيلاند طبيعيين لأنهم ليسوا عديمي الضمير أما عائلة ليونايدز فهم رغم تجردهم من الضمير إلا أنهم عطوفون، و لكن أحدهم ورث هاتين الصفتين مجتمعتين. هل تفهم ما أعنيه؟

لم أفكر بهذه الطريقة تماماً، و قال والدي:

- لن أرهقك بالصفات الموروثة، فهذا أمر دقيق و معقّد جداً. اذهب يا ولدي و دعهم يحدثونك. إن فتاتك محقة تماماً في شيء واحد: لن ينفعك و ينفعها سوى الحقيقة.

ثم أضاف فيما كنت أغادر الغرفة: و احذْر الطفلة!

- جوزفين؟ تعني الاّ أبوح لها بما أنوي أن أفعله؟

- كلا، لم أقصد ذلك، بل أقصد أن تعتني بها، فلا نريد أن يصيبها شيء.

حَدَقْتُ إليه، فقال:

- هيا يا تشارلز، إن بين أهل البيت قاتلاً يقتل بدم بارد، و يظهر أن الطفلة جوزفين تعرف معظم ما يجري.

- إنها تعرف كل شيء عن روجر، و ربما أخطأت بالقفز إلى إستنتاجٍ بأنه محتال و لكن معلوماتها تبدو صحيحة!

- نعم، نعم. إن شهادة الطفل هي أفضل الشهادة و أنا أصدقها كل مرة، لكنها لا تفيد في المحكمة قطعاً؛ لأن الأطفال لا يطيقون توجيه الأسئلة المباشرة، بل تراهم يهمهمون و يبدون بلهاء و يقولون بأنهم لا يعرفون لكنهم يكونون في أفضل أحوالهم عندما يتباهون. سوف تسمع منها مزيداً بالطريقة نفسها: لا تسألها أسئلة، اجعلها تشعر أنك لا تعلم شيئاً لتثيرها، و لكنّ عليك أن تهتم بأمرها، فلعلها تعرف كثيراً من أجل سلامة إنسان!

*****




- 13 -
تركت أبي و دهبت إلى ((البيت المائل)) و شعور قليل بالذنب يلازمني، لقد كررت على مسمع تافيرنر أسرار جوزفين التي تتصل بروجر، لكنني لم أقل شيئاً حول مسألة بريندا و لورانس براون و رسائل الحب.

إني معذور، فقد حسبت ما بيتهم رومانسية مجردة و لم أعلم سباً يثبت صحة ذلك، لكني كرهت أن أجمع أدلة أخرى على بريندا ليونايدز، كنت أشفق عليها من عائلة تكنّ لها العداء و هي متجمعة عليها قبوة. لو كان مثل هذه الرسائل بينهما فلا شك أن تافيرنر و أعوانه سيجدونها، كنت أكره أن أكون سبا في طرح نهمة جديدة على امرأة تعيش وضعاً صعباً! ثم إنها أكدت لي بهدوء أنه لم يكن بينها و بين لورانس أية علاقة، و شعرت أني أميل إلى أن أصدقها أكثر من تلك ((القزم الحقود)) جوزفين! ألم تقل بريندا بلسانها بأن جوزفين لم تكن هناك؟

كتمت قناعتي بأن جوزفين كانت هناك، و تذكرت الذكاء في عينيها السوداوين الصغيرتين.

و كلّمت صوفيا بالهاتف و سألتها إن كانت تأذن لي بالقدوم ثانية؟

- أرجوك أن تأتي يا تشارلز.

- كيف تسير الأمور؟

- لا بأس، ما زالوا يفتشون البيت، عمّ يبحثون؟

- لا أدري.

- إننا جميعاً غاضبون جداً، تعال في أسرع وقت، سوف أحن إذا لم أتكلم مع شخص ما.

قلت لها بأني سآتي إليها فوراً.

لم أرً أحداً و أنا قادم في السيارة إلى الباب الأمامي. أعطيت السائق أجره و نزلت. ترددت: هل أقرع الجرس أم أدخل، فقد كان الباب مفتوحاً.

و بينما أنا كذلك سمعت صوتاً خفيفاً من خلفي. أدرت رأسي بحدة... كانو جوزفين عند فتحتة سياجٍ من الشجر تنظر إليَّ و قد حجبتْ وجهها تفاحةٌ كبيرة، ذهبت تجاهها.

- مرجبا جوزفين.

لم تجبني، لكنها اختفت خلف السياج، و عبرتُ الطريق و تبعتها. كانت تجلس على مقعد خشبي صدئ غير مريح عند بركة السمك و تحرك ساقيها و هي تقضم التفاحة.

كانت تنظر إليَّ باكتئاب و شيءٍ لا أحسبه إلا العداء. قلت:

- ها قد جئت ثانية يا جوزفين.

كانت بداية ضعيفة، لكن كان صمت جوزفين و عيناها الجاحظتان يثيران الأعصاب.

و مازالت صامتة تفكر تفكيراً عميقاً. سألتُها:

- هل هذه تفاحة جيدة؟

هذه المرة تعطّفت جوزفين و أجابت بكلمة واحدة:

- غامضة!

- أمر مؤسف! لا أحب التفاح الغامض.

ردّت جوزفين بازدراء:

- لا أحد يحب ذلك.

- لم لم تكلميني حين قلت:((مرحبا))؟

- لم أكن أريد ذلك.

- لماذا؟

أبعدت جوزفين التفاحة عن وجهها لتساعد في توضيح شجبها و قالت:

- لأنك ذهبت و أبلغت الشرطة.

تفاجأْت:

- ها! تقصدين... بخصوص...

- بخصوص العم روجر.

- لكن لا بأس يا جوزفين لا بأس. إنهم يعرفون أنه لم يقترف ذنباً، لم يختلس مالاً أو شيئاً كهذا.

نظرتْ جوزفين إليَّ نظرة ساخطة:

- كم أنت غبي!

- إني آسف!

- لست قلقة على العم روجر؛ لكن هذا ليس أسلوب العمل البوليسي. ألا تعرف أنه ينبغي أن لا تخبر الشرطة حتى النهاية؟

- ها! فهمت. إني ىسف يا جوزفين. إني آسف حقاً!

- يجب ان تشعر بالأسف، لقد كنت أثق بك!

قلت لها مرة ثالثة بأنني آسف. بدت جوزفين هادئة، قضمت التفاحة مرتين و قلت لها:

- لكن الشرطة سيكتشفون كل شيء. إنك... إنني... نحن لا نستطيع أن نكتم الأمر طويلاً.

- تقصد لأنه كاد يفلس؟

كانت جوزفين – كعادتها – عالمة بالأمر. و قلت:

- ربما. أظن أن الأمر سيصل إلى ذلك الحد.

- سيتحدثون هذه ال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 9:12 pm

- 15 -
قالت صوفيا:

- غرفتكَ جاهزة!

وقفت جنبي تنظر من النافذة إلى الحديقة التي ظهرت كئيبة و جرداء في هذا الوقت، بالأشجار نصف العارية التي كانت تتمايل مع الريح. قالت صوفيا:

- تبدو مُقفرة!

و بينما كنا ننظر هناك إذ خرج من خلال سياج الحديقة شخصٌ يتبعه آخر. كان الاثنان يبدوان سبحين في الضوء الخافت. و كانت بريندا ليونايدز هي الشخص الأول.

كانت بريندا تتلفع بمعطف رمادي صوفيّ، و كانت تتحرك خلسة كالقطة، فقط انسلت تحت ستر الشفق برشاقة غريبة. و رأيت وجهها عندما مرت أمام النافذة، كانت شبه مبتسمة تلك الابتسامة الخادعة التي لاحظتها في الطابق العلوي. قم، بعد ذلك بضع دقائق، أطل لورانس براون نحيفاً مذعوراً يتسلل خلال الشفق أيضاً.

لم يكونا مثل اثنين يتمشيان أو شخصين خرجا للتنزه معاً، كان هناك شيء مريب و غامض في حركتهما. هل كان الغصن المقصوف قد انقصف تحت قدم بريندا أو لورانس؟ و بربط منطقي للأفكار قلت:

- أين جوزفين؟


- ربما في قاعة الدرس مع يوستيس...

و قطبت جبينها و قالت:

- إني قلقة على يوستيس يا تشارلز!

- لماذا؟

- إنه غريب الأطوار متقلب المزاج، و قد تغيرت حاله منذ ذلك الشلل الفاجع، لا أستطيع أن أعرف تماماً ماذا يدور في ذهنه؟ يبدو أحياناً أنه يكرهنا جميعاً.

- سيكبر و تتغير حاله... إنها مجرد مرحلة عابرة.

- أظن ذلك لكنني قلقة جداً يا تشارلز.

- لماذا يا حبيبتي؟

- لأن أمي و أبي لا يقلقان أبداً، إنهما ليسا كأس أم و أب آخرين.

- ربما كان هذا أفضل؛ لأن أكثر الأطفال يعانون من تدخّل الوالدين.

- أجل، أنا لم أفكر في هذا حتى رجعتُ من الخارج، لكنهما في الحقيقة زوجان غريبان: والدي يعيش في عالم تاريخي غامض مجهول، و والدتي تعيش وقتاً ممتعاً في خلق المشاهد، و ما تلك السخافة التي شاهدتَها هذا المساء من غير حاجة و لا ضرورة إلا من اختلاق والدتي. إنما أرادت أن تمثل مشهداً لاحتماعٍ عائلي سري؛ إنها تشعر بالملل هنا فتحاول أن تصنع تمثيلية!

في تلك اللحظة تخيلت ماجدا و هي تسمم حماها العجوز دون اهتمام لكي تشاهد تمثيلية في جريمة قتل تقوم هي بلعب الدور الرئيسي فيها: كانت فكرة مسلية! صرفتُ التفكير عنها لكنها لبثت تخيفني بعض الشيء.

و قالت صوفيا:

- كان ينبغي أن تلقى أمي العناية طوال الوقت، فلا أحد أبداً يعرف ماذا تنوي أن تفعل؟

قلت لها بقوة:

- انسي أمر عائلتك يا صوفيا.

- سأكون مسرورة لو فعلتُ ذلك، لكن هذا صعب نوعاً ما في الوقت الحالي. لقد كنت سعيدة في القاهرة عندما نسيتهم جميعاً.

تذكرت كيف أن صوفيا لم تذكر أبداً شيئاً عن بيتها و أهلها و هي هناك و سألتها:

- هل كان هذا هو السبب الذي جعلك لا تتحدثين عنهم؟ ألأنك كنت تريدين نسيانهم؟

- نعم. كنا نعيش جميعاً متعاونين، نحب بعضنا كثيراً. لم نكن كبعض العائلات التي يكره أفرادها بعضهم بعضاً كراهيتهم للسم. لا بد أن ذلك سيء جداً لكن الأسوأ أن تعيش في ظل مشاعر متضاربة و متشابكة.

ثم أضافت بعد سكوت قصير:

- أعتقد أن هذا ما عنيته عندما قلت أننا كنا جميعاً نعيش مع بعضنا في بيت صغير مائل. لم أكن أقصد بذلم أنه كان مائلاً بالمعنى الخادع للكلمة. أعتقد أن ما كنت أعنيه هو أننا لم نكن قادرين على أن نكبر مستقلين و نعتمد على أنفسنا بطريقة مستقلة كأننا كنا نعاني من التواء أو انحراف.

و رأيت إيديث دي هافيلاند تطحن بكعب حذائها بعض اللأعشاب الممتدة على الممر بينما كانت صوفيا تضيف قائلة:

- مثل اللبلاب!

و فجأة فتحت ماجدا الباب بعنف و دخلت و هي تصيح:

- حبيبيّ، ألا تنيران الأضواء؟ إن المكان مظلم.

ثم ضغطت الأزرار فأنارت مصابيح الحيطان و الطاولات، و أسدلنا نحن الثلاثة الستائر الوردية الثقيلة فأصبحنا في جو يوحي بالأزهار. صاحت ماجدا و هي تلقي بنفسها فوق الأريكة:

- يا له من مشهد! كم كان يوستيس غاضباً! لقد ساءه المشهد كثيراً. كم هم غرباء هؤلاء الأولاد! – تنهدتْ – إن روجر رجل محبوب. أنا أحبه عندما ينكش شعره و يبدأ بإلقاء أشيائه على الأرض! ألم يكن لطفاً من إيديث أنْ عرضتْ عليه نصيبها من التركة و قد كانت صادقة حقاً فلم يكن عرضها حركة ما؟ لكنه عرض أحمق، فلعلها قد جعلت فيليب يظن أن عليه أن يفعل مثلها هو الآخر. إن إيديث تفعل أي شيء من أجل العائلة. إن في حب العانس لأولد أختها شيئا محزنا. يوماً من الأيام سأمثل دور واحدة من الخلات العوانس المخلصات... إنهن فضوليات عنيدات و مخلصات.

قلتُ محاولاً أن أغير حديث ماجدا عن أدوارها:

- لابد أن وفاة أختها كانت قاسية عليها، أقصد إن كانت تكره العجوز ليونايدز كثيراً جداً...

قاطعتني ماجدا:

- تكرهه؟ من أحبرك بهذا؟... هراء. بل كانت تعشقه.

قالت صوفيا:

- أمي!

- لا تحاولي أن تعارضيني يا صوفيا. من الطبيعي أنك في مثل سنك تعتقيدن أن الحب يقع فقط بين شابين جميلين.

- لقد أخبَرتْني يا سيدتي أنها كانت تكرهه.

- ربما كانت تكرهه عندما جاءت هنا أول مرة؛ لقد كانت غاضبة من أختها أنها تزوجتْه فصار بينهما تنافر، لكنها كانت تعشقه بلا ريب. إنني – يا عزيزتي – أعلم ما أقول. أريستايدو لم يستطع بالطبع الزواج منها لأنها أخت زوجته الميتة، و أعتقد أنه لم يفكر بهذا الأمر أبداً، و لا هي فكّرت فيه حسب ظني. لقد كانت سعيدة برعاية الأطفال و الشجار معهم لكنها لم تكن سعيدة عندما تزوج بريندا، لم تحب ذلك أبداً.

قالت صوفا:

- و لا أنت أحبت ذلك و لا أبي.

- كرهنا ذلك جميعاً، و هذا أمر طبيعي، لكن إيديث كرهت زواجه أكثر منا كلنا، يا ليتك رأيتِها و هي تنظر إلى بريندا!

- أمي!

نظرت ماجدا إلى ابنتها نظرة تودد فيها شعور بالإثم، ثم أكملت حديثها دون ترابط:

- لقد قررتُ أن أرسل جوزفين إلى المدرسة.

- جوزفين؟ إلى المدرسة؟

- نعم، إلى سويسرا. سأبحث الأمر غداً. كنت أحسب أنمنا نستطيع أن نبعثها فوراً، فمن السيء أن تعيش في جو فظيع كهذا. لقد أصبحت كئيبة جداً بسببه. إنها بحاجة لمصاحبة الأطفال في مثل سنها... حياة مدرسية. كنت أفكر فيها كثيراً!

قالت صوفيا ببطء:

- لم يُرِدْ جدي لها أن تدخل في المدرسة، كان ضد هذه الفكرة!

- كان عزيزنا العجوز الجميل يحب أن نكون جميعاً حوله، و هذه أنانية الشيوخ غالباً، فالطفلة تحبّ أن تكون بين أطفال، كما أن في سويسرا رياضات الشتاء، و هي مكان صحي تماماً، و فيها هواء عليل و الطعام هناك أفضل بكثير من الطعام الذي عندنا!

- أليس سفرها إلى سويسرا صعباً مع القيود المفروضة على تحويل العملة هذا الأيام؟

- هذا هراء يا تشارلز. للنفاقات التعليمية استثناء خاص، أو يمكن تبادل نفقتها بنفقة طفلة سويسرية هنا، و لذلك طرق كثيرة. إن رودُلف أليستير في لوزان، و سوف أَبرق له غداً ليُهيّء كل شيء و نبعثها في نهاية هذا الأسبوع.

ضربت ماجدا وسادة وابتسمت لنا و قامت نحو الباب. وقفت لحظة و هي تنظر إلينا بطريقة ساحرة و قالت:

- الصغار أولاً. و فكرا يا حبيبيّ في الأزهار و في النرجس.

علّقت صوفيا باستنكار:

- و لكننا في تشرين الأول؟!

لكن ماجدا كانت قد ذهبت.

تنهدت صوفيا:

- أمي تُغيظ النفس بهذه الأفكار المفاجئة، و تبعث آلاف البرقيات، و تريد أن يتم كل شيء في لحظات! لـمَ هذه العجلة في إرسال جوزفين إلى سويسرا؟

- ربما يكون في فكرة المدرسة صلاحٌ لجوزفين و هي بين أترابها من الأطفال!

- جدي لم يكن يعتقد ذاك.

شعرتُ بعض الغيظ:

- عزيزتي صوفيا، هل تصدقين حقاً أن رجلاً عجوزاً أربى على الثمانين هو أفضل من يحكم بمصلحة طفل؟

- كان أفضل حكم تقريباً لأي شخص في هذا البيت؟

- أكان خيراً من خالتك إيديث؟

- ربما لا. كانت خالتي تفضل المدرسة لجوزفين. جوزفين ذات خصالٍ صعبة أحياناً، لقد اكتسبت صفة التطفّل القبيحة، لكني أظن هذا بسبب قيامها بتمثيل أدوار رجال التحري!

تساءلن: تُرى، لماذا رأتْ ماجدا فجأة إرسال جوزفين؟ أهو اهتمام بصالح جوزفين؟ جوزفين كانت على علك تاكّ بكل ما جرى قبل الجريمة و لم يكن ذلك من شأنها حتماً، و ربما تفيدها الحياة الصحية في المدرسة مع وجود الكثير من الألعاب فائدة كبيرة. لكنني تعجبت فعلاً من المفاجأة و الإصرار في قرار ماجدا، فقد كانت سويسرا بلداً بعيداً!

*****




- 16 -
كان أبي العجوز قد أوصاني فقال:((دعهم يتحدثون إليك)).

و بينما كنت أحلق لحيتي في صباح اليوم التالي جعلتُ أفكر فيما وصلت إليه من هذا الأمر:

((تحدثت إيديث دي هافيلاند معي، و قد بحثت عني في الخارج عمداً لهذا الغرض. و تحدثت كيمنسي. و تحدثت معي ماجدا – بشكل أو بآخر – لأنني كنت واحداً من مَشَاهِدِ مسرحياتها. و من الطبيعي أن صوفيا قد تحدثت معي، و حتى ناني فعلت ذلك. فهل كنت مدركاً ما عملته منهم جميعاً؟ هل كانت كلمة أو جملة ذات دلالة ما؟ و هل رأيت دليلاً على ذلك الغرور الشاذ الذي ألحّ عليه والدي؟ كلا، لم أر مثل ذلك الدليل.

كان الرجل الوحيد الذي لم يرغب – دون شك – في الحديث معي بأية طريقة و في أي شأن هو فيليب، أفلمْ يكن شذوذاً؟ لا بد أنه عرف أنني أريد الزواج من ابنته و مع ذلك مضى في تصرفه كأنني لم أكن موجوداً على الإطلاق. أظنه كان مستاءاً من حضوري هناك، و اعتذرتْ لي إيديث عنه و قالت بأن هذه هي ((عادته))، أرادت أن تظهر أنها معنية بفيليب، لماذا؟

فكرا في والد صوفيا... رجل مكبوت حقاً، و كان في طفولته بائساً غيوراً، فلما صار رجلاً انطوى و اعتزل و غاب في عالم الكتب، في التاريخ الماضي. الفتور و التحفظ ربما يخفيان عنده إحساساً كبيراً بالسخط.

إن دافع كسب المال من موت والده لم يقنعني، لا أظن – لحظة واحدة – أن فيليب ليونايدز يقتل أباه لأجل المال، و لكن: هل كان يوجد دافع نفسي خفي؟ عاد فيليب ليعيش في بيت والده، ثم إثر الغارة الجوية جاء روجر فنشأ في نفس فيليب الحسد لأخيه أن يكون هو المحبوب عند والده. هل خطر في دهنه المعذّب أن الراحة و الخلاص هما في موت العجوز و أن هذا الموت سوف يُجرِم أخاه الأكبر؛ لأن روجر كان يعوزه المال؟ هل يكون فيليب قد اعتقد – و هل لا يعلم شيئاً عن آخر لقاء بين روجر و أبيه و عرض الأخير المساعدة على روجر – أن الدافع يبدو قوياً جداً يجعل روجر مشبوهاً من الفور؟ هل كان اضطراب فيليب النفسي يدفعه للجريمة؟

جرحت الشفرة ذقني!

ما الذي كنت أحاول عمله؟ أأكون أردت أن أوقع والد صوفيا في جريمة القتل؟ هل كان هذا شيئاً حسنا لأفعله؟ كلا، لم تردْ صوفيا أن آتي لأجل هذا... أم أن ذلك هو ما ارادته؟ لقد كان في مناشدة صوفيا كي أجيء شيء ما. لو بقي في رأسها بقية اشتباه في والدها أنه هو القاتل إذن فلن ترضى بالزواج مني أبداً، و لأنها صوفيا الجريئة الحصيفة فقد أرادت كشف الحقيقة لكيْلا يكون الغموض سوراً منيعاً بيننا.

ألم تكن صوفيا تقول لي:((أثبت أن هذا الشيء المفزع الذي أتخيله ليس صحيحاً، و إن كان صحيحاً فاكشف لي حقيقته حتى أعلم الأسوأ و أواجهه))؟

هل تعرف إيديث دي هافيلاند أن فيليب مذنب أم تشك فيه؟ ما الذي تعنيه ((بالحب الأعمى))؟

وَ... كليمنسي: ماذا كانت تعني بنظراتها الغريبة إليّ حين سألتها فيمن تشتبه فقالت:((أقول بأن لوراني و بريندا هنا المشبوهان و لا أزيد))؟

كانت العائلة كلها تشتاق أن يكون القاتل لورانس و بريندا، لكنهم – في الحقيقة – يكادون يعلمون يقيناً أن هذا غير صحيح.

و قد تكون العائلة كلها مخطئة، ربما يكون الفاعل هو بريندا و لورانس، أو ربما يكون لورانس من دون بريندا، و هذا حلّ أفضل كثيراً.

ضمّدت جرح ذقني و نزلت إلى الإفطار و أنا عازم أن أقابل لورانس براون في أسرع وقت.

لقد تبيّن لي و أنا أشرب فناجان القهوة الثاني أن البيت المائل قد أثّر فيّ أنا الآخر، فأنا أيضاً كنت أسعى وراء الحلّ ((المناسب)) أكثر من الحل ((الحقيقي)).

ذهبت بعد الإفطار عبر القاعة و صعدت الدرج حيث يعلّم لورانس يوستيس و جوزفين في قاعة الدرس.

ترددت و أنا عند مصطبة الدرج عند باب جناح بريندا... هل أقرع الجرس و أطرق الباب أم أدخل مباشرة؟ قررت أنا أتعامل مع البيت كبيت ليونايدز المتكامل و ليس كمسكن بريندا الخاص.

و فتحت البا و دخلت.

كان كل شيء هادئاً و لا أحد هناك. عن يساري كان باب قاعة الاستقبال الكبيرة مغلقاً، و عن يميني رأيتُ بابيْن مفتوحين يؤديان إلى غرفة نوم و حمام. عرفت أن هذا الحمام هو حمام غرفة أريستايد ليونايدز حيث يحفظ الإيسيرين و الأنسولين.

الشرطة كانوا قد أنجزوا عملهم هناك. فتحتُ الباب و دخلت فأدركت كم هو سهل أن يصعد أي أحدٍ في البيت أو من خارجه إلى هنا و يدخل الحمام و لا يراه أحد!

وقفت في الحمام أنظر حولي. كان مجهزاً تجهيزاً مترفاً برقائق الفلّين البراق و حوض عميق و أجهزة كهربائية مختلفة و طبق حارّ من تحته سخّان، و غلاّية و طنجرة كهرباية صغيرة، و محمصة كهربائية، و كلّ شيء قد يحتاج إليه عجوز!

و كان على الحائط خزانة بيضاء مزخرفة. فتحتها فرأيت فيها أجهزة طبية و كأسين للأدوية و غاسل عين و قطرة عين و قوارير مكتوباً عليها إرشادات. و رأيت أسبريناً و مسحوق البوريك و يوداً و ضمادات لاصقة و غيرها.

و على رفّ آخر كان مخزون الأنسولين المكدّس، و إبرتان للحقن و زجاجة مطهّر. و على رف ثالث زجاجة مكتوب عليها: ((أقراص.. حبة أو حبتان في الليل عند اللزوم)).

لا شك أن قطرة العين كانت على هذا الرف الثالث. كان كل شيء واضحاً منظماً يسهل على أيب واحد الوصول إليه إذا أراد الإعداد لجريمة قتل!

كنت أستطيع أن أفعل ما أشاء في الزجاجات ثم أخرج بهدوء و أنزل إلى الطابق السفلي مرة أخرى من غير أن يشعر بي أحد!

ما أصعب مهمة الشرطة!

لا أحد يستطيع أن يجد ما يبحث عنه إلا المجرم نفسه!

تافيرنر كان قد قال لي: ((ضايقْهم. اجعلهم في نشاط دائم. أوْحِ إليهم أننا على وشك كشف الحقيقة. أعلنْ ما نفعله بينهم فإن فعلنَا ذلك فإن مجرمنا سوف يملّ انزواءه و يحاول أن يكون أشد ذكاء، عندئذٍ نمسك به)).

و لكن المجرم لم يستجب حتى الآن بشيء لهذا العلاج.

خرجت من الحمام و ما زال المكان خالياً، و مشيت عبر الممر، و مررت بغرفة الطعام عن يساري و منام بريندا و حمامها عن يميني. كانت إحدى الخادمات تتحرّك في هذا الحمام، و كان باب غرفة الطعام مغلقاً. ثم من غرفة وراءها سمعتُ صوت إيديث تتصل مع بائع السمك بالهاتف.

كان هناك سلّم لولبي يؤدي إلى الطابق الأعلى، صعدته و أنا أعلم أن غرفة نوم إيديث و مجلسها و حمامين آخرين و غرفة نوم لورانس براون كلها هنا. ثم رأيت درجاً قصيراً ينزل إلى غرفة كبيرة مبنّية فوق جناح الخدم في آخر البيت، و كانت الغرفة هي قاعة التدريس.

وقفت بالباب. كنت أسمع صوت لورانس براون يعلو قليلاً من داخل القاعة. لقد وجدت عادة جوزفين – التطفل – مغرية، فاسندت دون خجل على حافة الباب و جعلتُ أتنصّت.

كان لورانسُ يلقي درساً في التاريخ في فترة حكومة المديرين الفرنسية (1795 – 1799). دهشت كثيراً و أنا أصغي. فقد اكتشفت أن لورانس براون مدرّس رائع!

و لماذا أدهشني ذلك كثيراً؟ لقد كان أريستايد ليونايدز دائماً يختار الرجال جيداً و لعل قدرة لورانس على إثارة حماس تلامذته و خيالهم جاءت بسبب مظهره الخارجي الذي يُشبه الفأر.

إن دراما ثيرميدور مرسوم الحرمان ضد الربِسْبيرِسْت و روعة بارّاس و براعة فوشي الملازم الشاب في مدفعية نابليون الذي عانى الحرمان. كل هذه كانت حقيقيّة و حيّة.

سكت لورانس فجأة و سأل يوستيس و جوزفين سؤالاً جعلهما يضعان نفسيهما في مكان شخصيته في الدراما فلم يحصل على إجابة جيدة من جوزفين التي كان صوتها كمن أصابه نزلة برد. أما يوستيس فظهر مختلفاً تماماً عن مزاجه النفسي المعتاد فقد أجاب بذكاء و عقل و فهم بارع للتاريخ الذي ورثه – بلا ريب – عن والده!

ثم سمعت صرير كراسيّ تدفع للوراء فرجعت و صعدت الدرج حتى كأني قد نزلت لتوي عندما انفتح الباب.

خرج يوستيس و جوزفين من قاعة الدرس. قلت:

- مرحباً.

اندهش يوستيس و سأل بأدب.

- هل تريد شيئاً؟

انسلت جوزفين من ورائي من غير اكتراث. و قلت برود:

- كنت أريد أن أرى قاعة الدرس.

- ألم ترها أمس؟ إنها مكان للأطفال فقط، و قد كانت حضانة و ما زال فيها كثير من لُعَب الأطفال.

فتح لي الباب فدخلت.

كان لورانس براون يقف عند الطاولة فلما رفع بصره احمر وجهه و همس شيئاً رداً على تحيتي و خرج مسرعاً. قال يوستيس:

- لقد أخفتَه. إنه يخاف بسرعة!

- هل تحبه يا يوستيس؟

ها... لا بأس به، إنه رجل ممتلئ رهبة!

- لكنه ليس مدرساً سيئاً.

- لا. إنه ذو أسلوب مشوق و هو واسع المعرفة. يجعلك ترى الأشياء من زاوية مختلفة!
لم أعرف قطُّ أن هنري الثامن كان يكتب الشعر إلى آن بولين، و كان شعراً جيداً.

تحدثنا قليلاً في أمور شتى مثل قصيدة ((البحّار القديم)). و الأهداف السياسية للحروب الصليبية، و حياة القرون الوسطى، و الحقيقة التي أدهشت يوستيس عن أوليفر كرومْويل الذي منع حفلات عيد الميلاد، فأدركت أن هناك عقلاً قادراً و باحثاً في أسلوب يوستيس رغم غروره و التواء نفسيته.

و في الحال بدأتُ أدرك سبب سخريته، فلم يكن مرضه محنة مخيفة فقط، بل جعلته فتىً محبطاً و سبّب له الانتكاس و هو في مطلع حياته. قال يخاطبني:

- كان يجب أن أدخل الصف الحادي عشر في الفصل القادم. لا أطيق أن أقعد في البيت و أدرس مع طفلة فاسدة مثل جوزفين. إنها في الثانية عشرة من عمرها!

- أجل، لكنك لا تأخذ نفس الدروس، أليس كذلك؟

- كلا بالطبع. إنها لا تدرس الرياضيات المعاصرة و لا اللغة اللاتينية، لكنك لا تحب أن تتقاسم معلّماً مع فتاة.

حاولت أن أهدّئ غروره الرجولّي المجروح، قلت له إن جوزفين – و إن كانت في الثانية عشرة – فتاة ذكية جداً!

- هل تظن ذلك؟ أنا أراها فتاة حمقاء جداً لكنها بارعة حاذقة في أعمال التحري: تدور و تدس أنفها في كل مكان، و تكتب أشياء في دفتر أسودَ صغير و تتظاهر بانها تكتشف الكثير.. طفلة سخيفة ليس غير.. و على كل حال فالفتيات يعجزن عن أعمال التحري. لقد أخبرتُها هذا أظن أن أمي كانت على صواب تماماً، فأفضل شيء أن ترحل إلى سويسرا بسرعة.

- ألن تفتقدها؟

ردّ يوستيس بغطرسة:

- أفتقد طفلة في هذا العمر؟ لا طبعا... يا إلهي! في هذا البيت تكمن النهاية الأبدية: أمي تسافر إلى لندن و تُجبر كتّاب الروايات أن يكتبوا لها مسرحيات. و أبي يُوصد باب المكتب على نفسه و يقبع مع كتبه و أحياناً لا يسمعك إذا حدّثته. لا أدري كيف أحتمل الإرهاق مع والدين غريبين مثلهما؟ و العم روجر... عنيف يجعلك ترتعد، و زوجته كليمنسي لا بأس بها، لا تزعجني لكني أظنها معتوهة قليلاً. و الخالة إيديث ليست سيئة كثيراً لكنها طاعنة في السن تغضب كثيراً.لكن الأمور تحسنت قليلاً منذ عودة صوفيا. ألا ترى أن أهل البيت غريبوا الأطوار؟ فلدينا زوجة جدٍ شابة لتكون عمتنا أو أختنا الكبيرة... أعني أن هذا يجعلك تشعر بالكراهية!

كنت أدرك بعضاً من أحساسيه هذه. كأني تذكرت حالي و أنا في مثل عمره و كيف كنت أخشى أي شيء قد يعرّضني للسخرية أو للشفقة! قلت له:

- و ماذا عن جدك؟ أكنت تحبه كثيراً؟

ظهرت على وجه يوستيس تعبيرات غريبة و هو يقول:

- كان جدي ضد الاشتراكية.

- كيف؟

- لم يكن يفكر إلا في الأرباح. لورانس يقول بأن هذا خطأ كبير. و كان جدي مستبداً لا يحب إلا أن يأمر فيُطاع، ألا تظن ذلك؟

قلت بقسوة:

- على كل حال فقد مات.

- لا أريد أن اكون غليظ القلب، لكنك لا تستمتع بالحياة عند الشيخوخة!

- ألم يستمتع بالحياة؟

- لم يكن يستطيع ذلك. على كل حال فقد مضى وقت على رحيله. إنه...

سكت يوستيس و قد عاد لورانس براون إلى القاعة. و بدأ لورانس يثير جلَبة و هو يتفصح كتبه، لكني أحسست أنه كان يراقبني بطرف عينه. نظر إلى ساعته و قال:

- أرجو أن تحضر في الساعة الحادية عشرة تماماً يا يوستيس. لقد ضيّعنا وقتاً كثيراً في الأيام الأخيرة الماضية!

- حسناً يا أستاذي.

مشى يوستيس نحو الباب متكاسلاً و هو يصقر في حين رمقني لورانس براون بنظرة أخرى حادة و بلل ريقة مرة أو مرتين. كنت مقتنعاً أنه ما رجع إلى قاعة الدرس إلاّ ليتحدث معي.

جمع الكتب ثم بعثرها دون غرض ليتظاهر أنه كان يبحث عن كتاب مفقود، و قال:

- كيف يسير عملهم؟

- عملهم؟

- الشرطة.

ارتعش أنفه، و قلت في نفسي: وقع الفأر في المصيدة. قلت:

- إنهم لا يطلعونني على أسرارهم.

- ها! كنت أظن أن والدك هو مساعد المفوض، أليس كذلك؟

- بلى، لكنه لا يفشي الأسرار الرسيمة.

تعمدت أن أجعل نبرة الغرور في صوتي. قال:

- إذن فأنت لا تعلم كيف... ماذا... إذا..

ثقل لسانه و هو يقول:

- إنهم لن يقوموا باعتقال أحد، أليس كذلك؟

- ربما.

لقد أوصاني المفتش تافيرنر أن أجعلهم في نشاط مستمر. أجعلهم يثرثرون. حسناً، إني جعلت لورانس براون يثرثر.

بدأ يتكلم بسرعة و بعصبية:

- إنت لا تعرف الحال... الانفعال... لا تعرف ماذا هناك... يأتون و يرحون و يسألون الأسئلة. أسئلة سمجة لا علاقة لها بالقضية!

سكت. انتظرته همّ أن يتكلم. حسناً، فلآدعه يتحدث.

- أكنتَ حاضراً حين تحدث رئيس المفتشين ذلك الكلام الفظيع في ذلك اليوم بشأن السيدة ليونايدز و شأني؟ إنها فكرة رهيبة تجعل المرء يشعر بالعجز. كيف تمنع الناس من التفكير في أشياء سخيفة و كاذبة؟ فقط لأنها تصغر زوجها بسنين؟ إن الناس لهم عقول فظيعة! إني اشعر... اكاد لا أملك نفسي... أشعر أن كل هذا مؤامرة!

- مؤامرة؟ هذا مثير!

كان كلامه مثيراً و إن لم يكن على النحو الذي فهمه تماماً.

- إن العائلة، عائلة ليونايدز، لم تكن تعطف عليّ يوماً. كانوا قُساة عليّ دوماً، و قد أحسست أنهم يحتقرونني.

بدأت يداه ترتجفان، و أردف قائلاً:

- لأنهم الأغنياء و الأقوياء كانوا يزدرونني! ماذا كنت بالنسبة لهم؟ مجرد معلم معارضِ حيّ الضمير، و قد كانت معارضتي صحيحة و نابعة من فكر سليم!

لم أقل شيئاً. انفجر قائلاً:

- لا بأس. ماذا لو كنت خائفاً؟ أخاف من فشلي في تبرئة نفسي. أخاف ألا أستطيع أن أسحب الزناد عندما يتوجب عليّ ذلك. كيف تتبين أن الذي تقتله نازي؟ فربما يكون ولداً مهذباً أو ولداً قروياً ليس له ميول سياسية و إنما تمت دعوته للخدمة في جيش بلاده. أظن أن الحرب عمل خاطئ، هل تفهم ما أعنيه؟ أعتقد أنها خطأ.

ما زلت صامتاً. أظن أن صمتي كان يحقق أكثر مما تفعله المنازعات و المجادلات. كان لورانس براون يجادل نفسه، و كان في جداله يكشف كثيراً مما في نفسه. ثم قال بصوت مرتجف:

- كان الجميع يضحكون مني دائماً، يبدو أنني أملك موهبة في جعل نفسي أبدو سخيفاً. ليس الأمر أنني أحتاج إلى شجاعة لكنني أعمل الشيء بطريقة خاطئة دائماً. ذهبت مرة إلى بيت تشتعل فيه النيران كي أنقذ امرأة تحاصرها النار، لكني ضللت الطريق و خنقني الدخان ففقدت وعيي فأبلبى رجال الإطفاء بلاءاً كبيراً حتى أخرجوني، سمعتهم يقولون: ((لِمَ لَمْ يترك هذا الأحمق الأمر لنا؟)) إن محاولتي لم تكن نافعة و كلهم وقفوا ضدي. و أياً كان هذا الذي قتل السيد ليونايدز فلقد أحكمها حتى ألبسنيها. قتله أحدهم كي يحطمني!

- و ماذا عن السيدة بريندا؟

احمر وجهه. لم يعد فأراً بل أصبح رجلاً، و قال:

- السيدة بريندا امرأة عظيمة. رقة قلبها و لطفها مع زوجها الكهل كانا رائعين! إن التفكير بأنها سممت زوجها أمر مثير للضحك. و ذلك المفتش الغبي لا يفهمها!

- ربما كان متحيزاً بسب عد القضايا التي في ملفاته و التي تسمم فيه أزواج كبار بالسن بفعل زوجاتهم الشابات رقيقات القلوب!

قال لورانس غاضباً:

- الغبي الذي لا يطاق!

ذهب ناحية المكتبة عند الزاوية و بدأ ينقب بين الكتب، و أدركت أنني لن أسمع المزيد منه فخرجت من الغرفة ببطء.

و بينما كنت أسير في الممر إذ انفتح باب عن يساري و باغتتْني جوزفين كأنها جنيّ خرج من جوف الأرض!

كان وجهها قذراً و كذلك يداها، و على أذنها خيط عنكبوت.

- أين كنت يا جوزفين؟

نظرتُ من خلال الباب شبه المفتوح. رأيت درجتين تؤديان إلى غرفة مستطيلة مطلمة تشبه العُليّة، و رأيت خزانات كبيرة فيها.

قالت:

- إنها غرفة الصهاريج.

- و لمَ كنت في غرفة الصهاريج؟

قالت جوزفين بنبرة حازمة رسمية:

- أقوم بالتحري.

- و ماذا عساك أن تجدي في غرفة الصهاريج؟

لم تجبْ عن هذا السؤال، و قالت فقط:

- عليّ أن أغتسل.

- أعتقد أن هذا ضروري.

و ذهبتْ إلى أقرب حمام. ثم التفتت و قالت:

- لقد آن الأوان لتظهر الجريمة التالية، أليس كذلك؟

- الجريمة التالية؟

- في الروايات تظهر في مثل هذا الوقت دائماً جريمة ثانية: شخص ما يعرف شيئاً يتم التخلص منه قبل أن يتكمن من كشف ما يعرفه.

- الحياة الواقعية يا جوزفين ليست كالقصص البوليسية، و لو أن أحداً في هذا البيت عرف شيئاً فلن يحبَّ البوح به لأيٍّ كان.

ردت عليّ جوزفين بجواب غامض و ما زال الماء ينصبّ من الصُّنبور:

- أحياناً يعرفون أشياء و هم لا يشعرون.

طرفت عيناي و أنا أجتهد في فهم كلمتها، ثم تركتها و نزلت إلى الطابق الأسفل.

و بينما كنت خارجاً من الباب إلى الدرج إذْ أقبلتْ عليّ بريندا من باب غرفة الاستقبال، و اقتربت مني و وضعت يدها على ذراعي و حدقت إلي و قالت:

- هل من جديد؟

كانت طريقتها مثل طريقة لورانس في التماس الأخبار لكن صياغتها مختلفة، فكانت كلمتها الوحيدة هذه أكثر تأثيراً. هززت رأسي و قلت:

- لا شيء.

تنهدت و قالت:

- أنا خائفة كثيراً يا تشارلز، إني خائفة!

كان خوفها حقيقياً، ظهر لي مرتبطاً مع ذلك المكان الضيق فأردت أن أطنئنها لأساعدها، و أصابني مرة أخرى ذلك الإحسلس الشديد بأنها وحيدة في محيط عدائيّ!

ربما كانت تريد أن تصرخ و تقول : ((من يقف إلى جانبي؟))، و ماذا عسى أن تكون الإجابة؟... لورانس براون؟ و من يكون لورانس براون؟ ما هو إلا أحد الضعفاء!

تذكرتهما و هما يجريان و يدخلان البيت من الحديقة ليلة أمس.

أردت مساعدتها لكني لم أستطع أن أفعل أو أقول لها شيئاً، فكنت – في قرارة نفسي – ينتابني شعور بالذنب غير خالص رغم أن عيني صوفيا كانت تراقبانني باستهزاء. تذكرت صوفيا تقول: ((إذن فقد أوقعت بك)).

و لم تكن صوفيا تفهم أو تريد ان تفهم حال بريندا في هذه المسألة: وحيدة، مشبوهة بالجريمة، و لا أحد ينصرها. قالت بريندا:

- التحقيق سيجري غداً. ترى... ماذا سيحدث؟

هنا كنت أستطيع أن أطمئنها:

- لا شيء، لا تقلقي. سيتم تأجيله حتى يقوم الشرطة بمزيد من التحري، و لعلهم يطلقون للصحافة حريتها؛ لأن الصحف لم تذكر حتى الآن أنها وفاة غير طبيعية. إن لعائلة ليونايدز نفوذاً كبيراً. و لكن مع تأجيل التحقيق سوف يبدأ المزاح..

( ما أعجب أقوال المرء أحياناً! المزاح؟ لماذا قلتُ هذه الكلمة دون غيرها؟)

- هل... هل سيكونون مفزعين كثيراً؟

- لو كنت مكانك لما قبلت بأية مقابلة صحفية. بريندا لـمَ لا تعيّنين لك محامياً؟

تراجعتْ للوراء فَزِعةً و قد شهِقت شهيقاً قوياً. قلت لها:

- لا، لا. ليس كما تفهمين، لا أقصد... لكنْ محاميلً يعتني بمصالحك و ينصحك و يعلّمك ما تقولين و ما تفعلين مما لا تقولين و لا تفعلين... إنك وحيدة!

شدّت ذراعي و قالت: نعم، انت على صواب. لقد ساعدتني يا تشارلز. لقد ساعدتني...

نزلتُ الدرج و أنا اشعر بالحماس و الرضى. و رأيت صوفيا جانب الباب الأمامي، فقالت بصوت فاتر و جاف:

- أطلت البقاء... لقد سالوا عنك بالهاتف؛ والدك يريدك.

- من سكوتلانديارد؟

- أجل.

- ماذا يريدون مني؟ ألم يقولوا شيئاً؟

هزت صوفيا رأسها نافية. و رأيت في عينيها القلق فقلت لها:

- لا تقلقي يا حبيبتي، سأعود في الحال.
*****




- 17 -
ساد في غرف والدي شيء من التوتر. جلس الرجل العجوز وراء كاولته، و استند رئيس المفتشين بظهره إلى الشباك، و جلس السيد جيستكيل على كرسيّ الزوار و أنشأ يقول محتدّاً:

- ... ثقة بالغة لا لزوم لها!

تكلم والدي بهدوء:

- أجل أجل.. ها، مرحبا يا تشارلز، لقد قضيت وقتاً طويلاً و ظهر تغيّر مفاجيء.

قال السيد جيتسكيل: تغير لم يُسبق بمثيل!

كطان واضحاً أن شيئاً ما أزعج المحامي الصغير فابتسم رئيس المفتشين تافيرنر لي ورائه، و قال أبي:

- هل لي أن أختصر؟ جاءت السيد جيتسكيل رسالة مذهلة صَباح اليوم يا تشارلز، و هي من السيد أجرو دو بلاوس صاحب مطعم ديفلوس. إنه رجل طاعن في السن، ولد في اليونان، و لما أصبح شاباً أعانه ليونايدز و صار صاحِبَه. كان كثير الشكر لصديقه الذي أحسن إليه، و يبدو أن أريستايد كان يعتمد عليه اعتماداً عظيماً و يثق به كثيراً.

قال السيد جيستكيل: لم أصدق أبداً أن ليونايدز بمثل هذا الارتياب و يخفي أسراراً، لقد كان بالطبع شيخاً كبيراً و ربما كان خرفاً.

قال أبي بلطف:

- عندما تصبح شيخاً يا جيستكيل فإن عقلك يسهب كثيراً في ذكريات الشباب.

- لكن شؤون ليونايدز كانت كلها بين يدي لأكثر من أربعين سنة، و أجل الدقة ثلاثة و أربعين عاماً و نصف!

ابتسم تافيرنر ثانية، و سالتُ جيستكيل:

- ما الذي حدث؟

همّ السيد جيستكيل بالكلام لكنّ أبي سبقه:

- لقد أوضح السيد أجرو دو بو لاوس في رسالته أنه كان ينفذّ تعليمات محدّدة لصديقه أريستايد ليونايدز. و باختصار فقد وضع السيد ليونايدز في عهدته ظرفاً مختوماً قبل حوالي سنة، و كان مطلوباً من السيد أجرو دوبو لاوس أن يعطيه إلى السيد جيتسيكيل حال موت السيد ليونايدز. و قد اعتذر السيد أجرو دوبو لاوس إذ تأخر لكنه بيّن أنه كان مريضاً بذات الرئة و أن نبأ موت صديقه القديم لم يبلغه إلاّ ظهر البارحة.

قال جيتسيكيل: العمل هذا كله ينافي أخلاق المهنة.

و أكمل أبي قائلاً:

- و لما فتح السيد جيتسكيل الظرف المختوم و اطلع على مافيه رأى أن من واجبه...

و هنا قاطعه جيتسكيل مضيفاً:

- بناءً على الظروف...

أن يطلعنا على ما فيه، فوجدنا وضية موقّعة حسب الأصول و مصدّقة، و وجدنا رسالة تشرح وثيقة مرفقة.

قلت: إذن فقد ظهرت الوصية أخيراً.

تورد وجه السيد جيتسكيل قليلاً و قال:

- إنها ليست الوصية نفسها. هذه ليست هي الوثيقة التي أعددتها حسب طلب السيد ليونايدز. هذه الوصية مكتوبة بخط يده و هو أخطر ما يفعله الموصي. يبدو أن السيد ليونايدز كان ينوي أن يجعلني أبدو رجلاً أحمق!

حاول رئيس المفتشين تافيرنر أن ينعش هذا الجو الحزين، فقال:

- لقد كان رجلاً كهلاً يا سيد جيتسكيل، و الناس إذا شاخوا صاروا طائشين بعض الشيء. لا أقصد أنهم يصبحون مجانين لكنهم غريبو اطوار قليلاً.

عطس السيد جيتسكيل و قال أبي:

- اتصل بنا السيد جيتسكيل و أخبرنا بنود الوصية الأساسية فطلبت منه أن يأتي إلينا فوراً و يحضر الوثيقتين معه. ثم اتصلت بك يا تشارلز.

لم أفهم تماماً لـمَ اتصل والدي بي، و بدا لي هذا تصرفاً غير قويم من والدي و تافيرنر. كنت سأعرف بخبر الوصية في الوقت المناسب، و لم يكن من شاني قطّ أن أعلم كيف قسم العجوز ليونايدز أمواله. سألت جيتسكيل:

- هل هي وصية مختلفة؟ أعني: هل وزع فيها الأموال بشكل مختلف؟

- نعم.

كان ابي ينظر إلي، و لكن حرص رئيس المفتشين تافيرنر ألا ينظر إليّ. أصابني الخوف. كأن شيئاً يدور في ذهنهما، شيئاً أجهله. و نظرت إلى جيتسكيل متسائلاً:

- إنه ليس من شأني، و لكن...

- إن قسمة السيد ليونايدز ثروتَه حسب الوصية ليست بالطبع سراً يُخفى، كنت أدرك أن من واجبي أن أبيّنها للشرطة أولاً حتى يرشدوني إلى الخطوة التالية، و أنا أعرف ... – سكت برهة – ... أن بينك و بين الآنسة صوفيا شيئاً.

- آمل أن أتزوج بيها لكنها لم تقبل خطبتي في الوقت الحاضر.

- أجل، هذا صحيح تماماً.

خالفتُه و لم يكن هذا وقت الجدال. قال:

- حسب هذه الوصية المؤرخة في التاسع و العشرين من تشرين الثاني في العام الماضي فقد ترك السيد ليونايدز – بعد أن جعل لزوجته مئة ألف جنيه – أملاكه كلها و أمواله جميعاً لحفيدته صوفيا كاثرين ليونايدز.

فغرت فمي. قلت و لم أتوقع هذا:

- ترك أمواله كلها لصوفيا!.. ياله من عمل غريب. هل هناك من سبب؟

قال والدي:

- لقد أوضح أسبابه في الرسالة المرفقة – و أخرج ورقة من الدرج أمامه – هل تمانع أن يقرأها تشارلز يا سيد جيتسكيل؟

قال جيتسكيل بفتور:

- إني بين يديك. الرسالة توضحها، و ربما يكون هذا سباً لعمل السيد ليونايدز الغريب!

سلمني الرجل العجوز الرسالة. كانت مكتوبة بخط يدٍ دقيق بالحبر الأسود، و كان خط الرسالة يُظهر شخصية الفقيد و تميّزه. لم تكن مثل سائر الرسائل الأخرى المكتوبة بعناية، و فيها ملامح من الماضي حين تعلّم القراءة و الكتابة صعباً و ذا قيمة عالية. و هذا نص الرسالة:

((عزيزي السيد جيتسكيل،
ربما يصيبك الذهول إذا قرأت هذه الرسالة و ربما تغضب، لكنّ لدي أسباباً خاصة جعلتني أتصرف بطريقة قد تبدو لك سرية من غير لزوم.
إنني مؤمن بالفردية منذ وقت طويل.
قد لاحظت في صباي – و لم أنس ذلك أبداً – أن العائلة تركن إلى شخص واحد قوي يتحمل عبء العناية بالعائلة و رعاية سائر أفرادها.
و لقد كنت أنا في عائلتي هذا الشخص. جئت إلى لندن و أعددت نفسي و أعلت والدتي و أجدادي في سميرنا، و خلصت أحد إخوتي من قبضة القانون و ضمنت حرية أختي من زواج غير سعيد. و هكذا...
لقد رضي الله عني إذ منحني حياة طويلة أستطعت فيها رعاية أطفالي و العناية بهم و أطفالهم، و قد أخذ الله بعضهم مني بالموت لكني سعيد بأن البقية يعيشون تحت سقف بيتي.
و عندما أموت لابد أن ينتقل العبء الذي كنت أقوم به إلى شخص آخر.
و قد فكرت: هل أقسم ثروتي بين أبنائي الأعزاء بالتساوي قدر استطاعتي؟
فإن فعلت فأخشى ألا يكون في قسمتي مساواة حقاً.
إن الناس لا يتساوون، و لابد من خلفٍ لي يحمل ثقل شؤون بقية أفراد العائلة.
نظرتُ بتمعن فلم أجد احداً من ولدّي صالحاً كي يتولى هذه المهمة. فابني العزيز روجر لا يدرك قيمة العمل، و هو رجل ذو سمْتٍ محبوب لكنه متهور جداً و لا يستطيع أن يحكم على الأمور حكماً صحيحاً.
و أما فيليب فهو غير واثق من نفسه ليفعل شيئاً سوى الفرار من الحياة. و حفيدي يوستيس صغير جداً و أخشى أنه غير مدرك و لا حصيف كما يلزم، و هو كسول و يتأثر بأفكار أي امرئ يلقاه.

وحدها حفيدتي صوفيا التي يجتمع فيها كل الصفات المطلوبة... فتاة ذكية حكيمة جريئة و عادلة، و عقلها سديد و نفسها سمْحة، فإليها أعهد بالمحافظة على سعادة العائلة و سعادة إيديث دي هافيلاند أخت زوجتي اللطيفة و التي أنا ممتن لها على تكريسها حياتها الطويلة للعائلة.
من أجل هذا كتبت الوثيقة المرفقة. أما الذي سيكون صعباً شرحه لك يا صديقي القديم، فهو الخداع الذي مارسته عليك.
لقد ظننت أن من غير الحكمة إثارة قلاقل في شأن قسمة ثروتي، و ليس لدي نية أن أجعل عائلتي تعرف أن صوفيا ستكون هي وريثتي.
و حيث أن روجر و فيليب قد أخذا ثروة كبيرة من قبل قسمتها لهما فإنني لا أشعر أن قسمة ثروتي حسب الوصية سوف يضعهم في موقف مذل.
و لكيْلا تنشأ ظنون طلبت منك أن تصوغ لي وصية قرأتُها لأفراد العائلة مجتمعين، ثم وضعتها على مكتبي و وضعت عليها قطعة ورقٍ نشّاف، و دعوْتُ خادمين، فلما حضرا زلقت النشافة إلى أعلى قلئلاً و كشقت أسفل الوثيقة و وقّعت أنا و أمرتهما أن يوقّعاها.
إن الذي وقّعته أنا و الخادمان هو الوصية التي أرفقتها الآن و ليست التي كتبت مسوّدتها و قرأتها على الجميع بصوت مرتفع. لا يمكنني أن أكون واثقاً أنك ستفهم ما الذي دفعني لتنفيذ هذه الحيلة؟ أرجوك أن تغفر لي أنني أخفيت الأمر عنك، فالشيخ الكبير يحب الاحتفاظ بأسراره الصغيرة!
شكراً لك أيها الصديق القديم على اهتمامك الدائم بشؤوني الخاصة! بلّغ صوفيا حبي الغالي لها و أوْصِها أن ترعى العائلة جيداً و أن تجنبهم الأذى.
المخلص
أريستايد ليونايدز))

قرأت هذه الوصية الخطيرة باهتمام شديد، و قلت:

- أمر غريب!

قال جيتسكيل و هو ينهض من مقعده:

- غريب جداً! كنت أظن أن صديقي القديم – كما قلت آنفاً – كان يثق بي.

قال والدي: لا يا جيتسكيل، لقد كان رجلاً غير أمين، و كان يحب فعل الشيء بأسلوب ملتوٍ إن صحَّ التعبير.

قال رئيس المفتشين تافيرنر بانفعال:

- هذا صحيح يا سيدي. كان مخادعاً أكثر من غيره.

خرج جيتسكيل من الغرفة غاضباً، فقد جُرحت كبرياؤه المهنية جرحا بالغاً. و قال تافيرنر معّلقاً:

- لقد آذته هذه الوثيقة أذى قاسياً، فشركة جيتسكيل ((كالوم و جيتسكيل)) ذات صيت حسن، و عندما كان العجوز ليونايدز ينجز صفقة تثير الشك لم يكن بعلم بها جيتسكيل، فقد كان العجوز يعامل ست شركات محاماة تعمل نيابة عنه... لقد كان مخادعاً!

قال والدي: و كان أشد خداعه حين كتب وصيته.

- لقد كنا حمقى! لا أحد يستطيع لعب الحيلة في تلك الوصية غير العجوز نفسه. إنم نسينا أنه ربما كان يريد ذلك.

تذكرت ابتسامة جوزفين عندما قالت متافاخرة: ((أليس الشرطة أغبياء؟)).

لكن جوزفين لم تحضر اجتماع الوصية. لو أنها كانت في ذلك اليوم تتنصت بالباب – و لا ريب في هذا – فما كان يسعها أن تخمن ماذا يفعل جدها. إذن فعلام كان تفاخُرها؟ ما الذي تعرفه لتزعم أن الشرطة حمقى أم أن هذا أيضاً كان تباهياً؟

رفعت بصري بحدة و أنا مذهول من سكون الغرفة و سكوتها. كان والدي و تافيرنر يراقبانني. لم أدرِ ماذا لمحت في جهيهما فقلت بجرأة:

- صوفيا لم يتكن تعلم شيئاً عن هذه الوصية. لا شيء على الإطلاق.

والدي: لا تعلم؟

لم اتبيّن كلمته أكانت سؤالاً أم موافقة؟ قلت:

- كانت ستصع دون شك!

- حقاً؟

- نعم، ستصعق!

حلّ الصمت قليلاً. رن الهاتف فوق مكتب أبي رنة شديدة فجأة، فرفع أبي السماعة:

- آلو... – أنصت قليلاً – ... صلني بها – و التفت إليّ – ... إنها فتاتك تريد محادثتنا في أمر عاجل.

أخذت السماعة منه:

- صوفيا؟

- تشارلز. أهذا أنت؟ إنها... جوزفين! انقطع صوتها قليلاً.

- ماذا أصاب جوزفين؟

- لقد ضُربت على رأسها. ارتجاج في الدماغ. إنها... إنها في حالة سيئة جداً. يقولون أنها قد لا تتعافى!

التفتُّ إلى الرجلين الآخرين و قلت:

- لقد ضُربت جوزفين.

أخذ أبي السماعة مني و هو يخاطبني بحدّة:

- ألم أوصِك أن تراقب تلك الطفلة؟

*****




- 18 -
لم يمض وقت طويل حتى كنت و تافيرنر نسرع في سيارة الشرطة تجاه سوينلي دين.

و خطر ببالي خروج جوزفين من بين الصهاريج و ملاحظتها المغرور حين أنذرت باقتراب الوقت لظهور جريمة قتل ثانية. لم تكن الطفلة المسكينة تعلم أنه هي نفسها ستكون الضحية في الجريمة التالية. لقد أصاب والدي حين لامني لوماً ضمنياً. كان يجب علي مراقبة جوزفين، فلا أنا و تافيرنر استطاع أن يأتي بدليل على من سمم العجوز ليونايدز، فلعل هذا الدليل كان لدى جوزفين، فالذي كنت أرى أنه هراء أطفال و ((تباهٍ)) كان شيئاً مختلفاً تماماً، فربما حصلتْ على خيط من المعلومات لم تعلم هي نفسها قدرها و خطرها.

وخطر بالي الغصن الذي نقصف في الحديقة.

حينئذ أصابني إحساس بأن الخطر كان وشيكاً، و كنت أظن أني قد بالغت في الشك. كان ينبغي أن أدرك أن هذه جريمة قتل، و أياً كان الذي ارتكب الجريمة فقد عرض نفسه للخطر و لن يتردد في تكرار جريمته إن تأكد أنها ضمان لسلامته.

ربما عرفت ماجدا ماجدا بغريزة الأمومة الخفية أن جوزفين في خطر، و لعل هذا ما جعلها متحمسة فجأة و متعجلة في سفر الطفلة إلى سويسرا.

و خرجت صوفيا لنا حين وصلنا و قالت بأن جوزفين حُملتْ في سيارة الإسعاف إلى مستشفى ماركت باسنغ العام و غن طبيبها، غري، سوف يبلغهم ساعة ظهور نتيجة الأشعة. سألها تافيرنر:

- كيف وقع الحادث؟

تقدمتنا صوفيا في الطريق خلف البيت، و دخلنا من باب في ساحة صغيرة مهجورة، و في إحدى الزوايا رأينا باباً مفتوحاً جزئياً، و أوضحت صوفيا:

- إنه بيت للغسيل، في أسفل الباب فتحة أحدثهتها قطة، و قد اعتادت جوزفين أن تقف عليها و تتأرجح.

تذكرت التأرجح على الأبواب و نحن صغار!

كانت غرفة الغسيل صغيرة مظلمة، و رأيت فيها صناديق خشبية و خراطيم عتيقة و بعض أدوات الحديقة المهملة و أثاثاً مكسوراً، و كان خلف الباب مِصدّ رخامي على هيئة تمثال أسد.

أوضحت صوفيا:

- إنه مصدّ الباب. لابد أنه كان موضوعاً فوق أعلى الباب.

رفع تافيرنر يده إلى قمة الباب. كان باباً منخفضاً و قمته تعلو رأسه قدماً واحداً.

- إنه شرَك.

هز الباب يميناً و يساراً يجرّبه و انحني إلى التمثال الرخامي من غير أن يلمسه.

- هل لمسه أحد؟

صوفيا: لا. لم أسمح أن يلمسه أحد.

- عمل صحيح. مَنْ وجدها؟

- أنا. لم تأتِ لتأكل غداءها في الساعة الواحدة. كانت ناني تنادسها و كانت قد عبرت المطبخ و خرجت منه إلى ساحة الإسطبل قبل ربع ساعة. ناني قالت إنها كانت تلعب بكرتها أو تتأرجح في الباب ثانية، و قلت إنني سأذهب لأحضرها!

سكتت صوفيا.

- هل قلت بأنها تعودت أن تلعب هكذا؟ من كان يعلم ذلك؟

هزت صوفيا كتفيها استهجاناً:

- أظن أن جميع أهل البيت يعلمونه جيداً.

- و من يدخل غرفة الغسيل غيرها؟ عمال الحديقة؟

- كلا، لا يذهب إليها أحد.

- أليست هذه الساحة الصغيرة مكشوفة من البيت؟ ألا يستطيع امرؤ أن يتسلل خرج البيت أو يدور من أمام البيت و يزرع ذلك الكمين؟ - و سكت و هو ينظر إلى الباب و حرّكه يمنة و يسرة – ... لا شيء في شأنه مؤكد. إما أن تقع عليها الضربة أو تفلت منها، و الغالب أن تفلت منها لكنها لم تكن محظوظة فضُربت!

ارتجفت صوفيا.

نظر إلى البلاط و كان عليه آثار ضربات متعددة. قال:

- كأن أحداً قام بتجربته أولاً لكي يرى كيف تقع على الأرض و يتأكد من أن الصوت لن يسمعه أهل البيت.

- لم نسمع شيئاً و لا عرفْنا شيئاً حتى خرجت و وجدتها ملقاة على وجهها، و جسمها متمدد في الخارج.

و انقطع صوت صوفيا قليلاً ثم أضافت:

- والدم على شعرها!

أشار تافيرنر إلى وشاح صوفي على الأرض:

- هل هذا وشاحها؟

- نعم.

التقط قطعة الرخام بحذر باستخدام الوشاح و قال غير آمل:

- ربما يكون عليها بصمات، لكني أظن أن الذي فعلها كان حذراً – و التفت إلي – إلامَ تنظر يا تشارلز؟

كنت أنظر إلى كرسي مطبخ خشبي ظهره مكسور كان ملقى بين الأشياء المهملة و عليه آثار تراب. قال تافيرنر:

- عجباً! رجل وقف على ذلك الكرسي و قدماه موحلتان. لماذا؟ – هز رأسه – متى وجدتِها يا آنسة ليونايدز؟

- في الساعة الواحدة و خمس دقائق.

- وشاهدتْها خادمتكم ناني تخرج قبلها بعشرين دقيقة، من كان آخر شخص دخل بيت الغسيل قبلها؟

- لا اعرف، ربما جوزفين نفسها. جوزفين كانت تتأرجح على الباب هذا الصباح بعد الفطور، هذا ما أعرفه.

أومأ تافيرنر برأسه:

- إذن بين ذلك الوقت و الواحدة إلا ربعاً وضع شخص الشرك. قلتِ بأن هذه كانت سنادة الباب الأمامي فهل تعرفين متى فُقدتْ؟

هزت صوفيا رأسها:

- لم ينفتح الباب طوال اليوم فقد كان الجو بارداً.

- هل تعرفين أين كان كلّ واحد طيلة الصباح؟

- أنا خرجت أسير. يوستيس و جوزفين كانا في الدرس حتى الثانية عشرة و النصف ما عدا فترة راحة في العاشرة و النصف، و اظن أن أبي مكث في المكتبة طوال الصباح.

- و أمك؟

- كانت خارجة لتوها من غرفة نومها حين دخلتُ البيت في الثانية عشرة و الربع تقريباً، فهي لا تصحو مبكراً.

دخلنا البيت مرة ثانية و تبعت صوفيا إلى المكتبة. كان فيليب يجلس على كرسيه شاحباً منهكاً، و كانت ماجدا جاثية على ركبتيه تبكي، و سالتهما صوفيا:

- ألم يأتِ من المستشفى خبرٌ بعدُ؟

هز فيليب رأسه نافياً، و قالت ماجدا و هي تنشج:

- لماذا منعوني أن أخرج معهم؟... طفلتي! طفلتي العجيبة القبيحة. كم مرة قلت لها: ((لست ابنتي)) و كانت تغضب كثيراً! كم كنت قاسية عليها! و الآن، سوف تموت! أخشى أن تموت!

فيليب: اهدئي!

شعرت أنْ لا مكان لي في هذا المشهد الأبوي القلق الحزين فانسللت بهدوء و جعلتُ أبحث عن ناني. كانت في المطبخ تبكي هي الأخرى، و قالت:

- إنما هي عقوبة إلهية، عقوبة إلهية بسبب الأشياء القاسية التي كنت أفكر فيها يا سيد تشارلز، هذا هو الأمر!

لم أحاول أن أفهم قصدها.

- ثمّة شرٌّ في هذا البيت. لم أكن أريد أن أفهم ذلك و لا أصدقه: شخص ما قتل سيد البيت و حاول أن يقتل جوزفين!

- لماذا؟

مسحت ناني عينيها بمنديلها و نظرت إلي نظرة لاذعة:

- أنت تعرف جيداً كيف كانت يا سيد تشارلز. كانت تحب كشف ألشياء حتى الحقيرة جداً. تعودت أن تختبئ تحت طاولة العشاء و تتنصت إلى حديث الخادمات ثم تقلبها عليهن كي تحسّ أنها مهمة. لقد أهملتها أمها. لم تكن طفلة أنيقة حلوة مثل أخويها. و اعتادت أمها أن تقول بأنها ليست ابنتها. إنني أعتب على السيدة بسب ذلك إذ كان هذا يثير حفيظتها، لكنها كانت ترجع إلى عادتها في تتبع الناس ثم تخبرهم أنها كانت تعلم أشياء عنهم، و هذا أمر خطير عندما يكون في المكان مجرم طليق!

لم يكن هذا البيت آمناً. كلاّ و تذكرت شيئاً فسألت ناني:

- هل تعرفين أن مخبأ دفترها الأسود الصغير الذي تدوّن فيه ملاحظاتها؟

- أعرف ما تعنيه يا سيد تشارلز. كانت جوزفين كتومة. لقد رأيتها تلحس قلمها الرصاص و تكتب في الدفتر ثم تلحس القلم مرة أخرى، و قد نهيتُها أن تفعل ذلك و إلا يُصبْها الرصاص فقالت بأنها لن تتسمم؛ لأن قلم الرصاص ليس فيه رصاص حقاً بل كربون. و لم أفهم؛ لأنك حين تسمي شيئاً ((قلم رصاص)) قلابد أن يكون فيه رصاص!

- أجل، لكن جوزفين كانت على حق. و ماذا عن دفتر الملاحظات هذا؟ أتعرفين أين كانت تحفظه؟

- لم أكن أعلم يا سيدي. كان شيئاً من الأشياء التي تكتمها.

- ألم يكن معها عندما عُثر عليها؟

- لا. لم يكن معه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 9:15 pm


- 20 -
انتهى التحقيق كما كنت قد تنبأت له، فقد طلبت الشرطة تأجيله.

و قد أسعدنا الخبر الذي وصلنا ليلة أمس من المستشفى أنّ إصابة جوزفين كانت أقل خطراً مما نظن و نخشى و أنها سوف تتعافى. و قال الدكتور غري إنه لن يسمح لأحد أن يزورها الآن حتى أمِّها.

همست صوفيا:

- لا سيما أمها، لقد أوضحت ذلك للطبيب. على أية حال فهو يعرف والدتي.

لا بد أنني كنت مرتاباً لأن صوفيا قالت بحدة:

- لـمَ نظرة الاستنكار هذه؟

- حسناً.. إن أمك بالتأكيد..

- يسرني أن لديك بعض الأفكار الجميلة يا تشارلز، لكنك لا تعرف تماماً ماذا عسى أمي أن تفعل. إنها لا تستطيع أن تمنع تفسها من أي عمل و لكن في مشهد درامي كبير. و المشاهد الدرامية ليست أشياء طيبة لمن يتعافى من إصابات في رأسه.

- أنت تفكرين في كل شيء يا حبيبتي!

- حسناً، لابد من شخص يفكر الآن بعد أن مات جدي!

نظرت إليها متأملاً. عرفت فطنة العجوز ليونايدز لم تفارقه، فهاهو عبء همومه قد ألقي على كاهل صوفيا.

صحبنا جيتسكيل بعد التحقيق و نحن في طريقنا إلى البيت ((ثري غابلز)). و هناك تنحنح و قال بأبهة:

- عندي إعلان من واجبي أن أبلغكم به جميعاً!

ومن أجل هذا الغرض اجتمعت العائلة في غرفة استقبال ماجدا، و كان ينتابني إحساس ممتع لرجل وراء الكواليس، فقد كنت أعلم سابقاً ماذا يريد جيستكيل أن يقول، و قد تهيأتُ لملاحظة ردّ فعل كل واحد منهم.

كان خطاب جيتسكيل مختصراً و صريحاً. إن أية علامة على المشاعر الشخصية و القلق كانت تظهر على الخدود جيداً. قرأ أولاً رسالة أريستايد ليونايدز ثم قرأ الوصية نفسها.

كان ذلك مشهداً مثيراً للاهتمام، و كنت أتمنى أن تستطيع عيني أن تراهم جميعاً في آنٍ واحد!

لم ألتفت كثيراً إلى بريندا و لورانس، فالفقرة المتعلقة بريندا في هذه الوصية لم تتغير. لقد راقبت روجر و فيليب و ماجدا و كليمنسي.

كان انطباعي الأول عنهم أنهم تصرفوا جميعاً تصرفاً مناسباً.

فيليب كانت شفتاه مزمومتين فيما ألقى رأسها على ظهر الكرسي الطويل الذي كان يجلس عليه، و لم يتكلم.

أما ماجدا فعلى العكس من ذلك، حيث انفجرت تتكلم لحظة أنهى جيتسكيل كلامه، فكان صوتها القوي يطغى على نبراته الرفيعة كالمد يُغرق الجدول!

- حبيبتي صوفيا... ما أغرب هذا!... أمر مثير! لقد كان العجوز الجميل ماكراً جداً و مخادعاً. ألم يكن يثق بنا؟ أكان يخشى أن نغضب؟ لم يكن يبدو محباً لصوفيا أبداً أكثر منا. الحق أنه أمر مثير جداً!

و فجأة قفزت ماجدا بخفة و جعلتْ تلاطف صوفيا و تنحني لها احتراماً و تبجيلاً:

- مدام صوفيا، إن أمك العجوز المفلسة المعتلة تتوسل إليك أن تتصدقي عليها! ((أطعنا الفتات يا عزيزتي!)) إن أمك تريد أن تذهب إلى السينما!

ارتجفت بيدها التي كانت معقوفة كأنها مخلب في وجه صوفا.

قال فيليب من غير أن يتحرك بفمٍ منقبض:

- أرجوك يا ماجدا، كفاكِ تهريجاً.

صاحت ماجدا فجأة و هي تلتفت إلى روجر:

- أوه! لكن روجر. مسكين روجر! كان الفقيد على وشك أن ينقذه، ثم، قبل أن يتهيأ له ذلك مات! و الآن، روجر لن يأخذ شيئاً! – و التفتت التفاتة متغطرسة ناحية صوفيا – ... صوفيا، يجب أن تفعلي شيئاً من أجل روجر.

و لكن كليمنسي قالت و هي تخطو إلى الأمام و على وجهها ملامح التحدي:

- لا، لا شيء، لا شيء على الإطلاق.

جاء روجر ناحية صوفيا متثاقلاً مثل دبّ كبير أنيس، و أمسك يديها بحنان:

- لا أريد بنساً واحداً يا عزيزتي، حالما ينتهي هذا الأمر فسوف أرحل أنا و كليمنسي إلى جزر الهند الغربية و نحيا حياة بسيطة، لو أصبحت مفلساً فسوف أطلب المساعدة من رئيس العائلة – و ابتسم لها ابتسامة جذابة – و حتى ذلك الحين فلا أريد بنساً واحداً. إنني في الحقيقة رجل بسيط يا عزيزتي، سلي كليمنسي إن كنت غير ذلك!

انطلق صوت غير متوقع. كان ذاك صوت إيديث دي هافيلاند. قالت:

- هذا جيد. و لكن يجب أن تلتفت قليلاً غلى هذا الأمر: لو أصبحت مفلساً يا روجر ثم وقعت و لم تددْ صوفيا لك يد المساعدة فسينتشر كلام كثير لن يسر صوفيا.

سألتها كليمنسي بازدراء:

- و ماذا يهمنا من أحاديث الناس؟

تجهمت إيديث:

- نحن نعلم أنه لا يهمك يا كليمنسي، لكن صوفيا تعيش في هذا العالم، إنها فتاة ذكية و ذات قلب طيب، و لا شك أن أريستايد كان مصيباً تماماً عندما اختار صوفيا لتمسك ثروات العائلة، و إن يكن تجوُزُ ولدين مازال حيّين ليس من أعرافنا الإنكليزية، لكني أكره أن يشيع في الناس أنها طمعت في المال و تركت روجر و لم تُنجدْه.

ذهب روجر صوب خالته، أحاطها بذراعيه و عانقها قائلاً:

- كم أحبك يا خالتي إيديث!...مقاتلة صامدة. لكنك لم تفهمني: إني و زوجتي نعلم ما نريد مما لا نريد.

وقفت كليمنسي تتحداهم و على خديها الرقيقين حمرة مفاجئة:

- لا أحد منكم يفهم روجر. لم تفهموه و لا أراكم سوف تفهمونه أبداً. هيا يا روجر.

غادرا الغرفة بينما بدأ جيتسكيل يجلو حنجرته و يرتب أوراقه و ملمحه يدل على الاستياء، فهو يكره مثل هذه المشاهد كثيراً.

طرفت عيناي أخيراً إلى صوفيا نفسها. كانت تقف منتصبة أنيقة جانب الموقد ذقنها مرفوع إلى أعلى و عيناها شاخصتان.

لقد ورثت الآن ثروة ضخمة، لكنني كنت أخشى عليها من الوحدة التي غدتْ تعيشها فجأة. لقد نشأ حلجز بينها و بين عائلتها، و من الآن فصاعداً لقد انفصلت عنهم.

حسِبتُ أنها أدركت هذه الحقيقة من قبل و قد واجهتها. ما أثقل العبء الذي تحمله على كتفها بعد العجوز ليونايدز! هو كان يدركه و هي كانت تدركه. لقد كان مؤمناً بقوة كتفيها على حمل هذا العبء، لكنني – في هذه اللحظة – شعرت بالأسف عليها!

و ما زالت صوفيا صامتة لا تتكلم، الحق أنه لم تسها فرصة للحديث، لكن الكلام سيندفع الآن منها كالسيل. كنت أشعر أن في صدرها عداء مستتراً للعائلة رغم حبها الظاهر لهم، و هناك مشاعر خفية أكثر ظلمة لم تظهر على السطح بعد.

جلا جيتسكيل حنجرته من أجل خطبة رقيقة بليغة:

- هنيئاً لك يا صوفيا، فأنت الآن امرأة ثرية، و لكني لا أنصحك باتخاذ أي إجراء مستعجل! يمكنني أن أقدم لك الآن ما تحتاجينه من النفقة، و إذا رغبت في مناقشة الترتيبات المستقبلية فأنا يسعدني أن أنصح لك خير نصح، حددي لي موعداً في فندق لينكولن متى شئت.

بدأت إيديث تتكلم:

- روجر..

أدركها جيتسكيل:

- روجر يجب أن يعتمد على نفسه. إنه رجل كبير، في الرابعة و الخمسين، و قد أصاب أريستايد ليونايدز؛ لأن روجر ليس رجل أعمال و لن يكون أبداً كذلك! – و نظر إلى صوفيا – إذا دعمتِ شركة التجهيز الغذائي و وقفتْ على قدميها ثانية فلا تحسبي أن روجر يقدر أن يديرها بنجاح.

- لا أجسب أنني سأجعل الشركة تقف على قدميها ثانية.

كانت تلك كلمتها الأولى. كان صوتها حازماً جاداً و هي تقول:

- من الحماقة أن أفعل.

رمقها جيتسكيل بنظرةٍ و ابتسم ثم ودّع الجميع و خرج.

حل الصمت قليلاً كأن كل افراد العائلة في تفكير بالغ، ثم نهض فيليب ضجراً:

- سأعود إلى المكتبة، أضعتُ وقتاً كثيراً.

توسلت إليه صوفيا:

- أبي!

التفت إليها فيليب بعينين باردتين فيهما عداوة فأحسست أنها ترتجف و تتراجع إلى الوراء. قال فيليب:

- سامحيني لأنني لم أهنئك. كان هذا صدمة لي، فما كنت أصدق أن أبي يُذلني هكذا و لا يقدّر إخلاصي له طوال حياتي! اجل. إخلاصي!

هذه أول مره يخرج فيها فيليب من تخفظه. صاح:

- يا إلهي! كيف يفعل ذلك بي؟ كان دائماً غير عادلٍ معي... دائماً!

صاحت إيديث دي هافيلاند:

- لا يا فيليب، لا، لا تفكر هذا التفكير، لا تظنّه ازدراء، فالناس إذا تقدموا في العمر يميلون عفوياً إلى الجيل الأصغر. تأكد أن الأمر ليس إلا هذا، و لا تنسَ أن أريستايد ذو إدراك ذكي في الأعمال. لقد سمعته كثيراً يقول بأن حصتين من ضريبة الإرث...

قال فيليب بصوت أجش خافت:

- إنه لم يكن يهتم بي يوماً! كان يحب روجر... روجر. حسناً، لماذا؟ - و ظهرت على وجهه الجميل ملامح حقد غريبة – ... لقد أدرك أبي أن روجر أحمق و فاشل فحرمه من الإرث.

قال يوستيس: و ماذا عني؟

لم أكن لاحظت يوستيس حتى هذه اللحظة، أدركت أنه كان كان يرتجف و ينفعل انفعالاً عنيفاً. كان وجهه حانقاً و امتلأت عيناه بالدموع. كان صوته يتردد و هو يعلو بجنون. قال يوستيس:

- إنه عملٌ مُخزٍ. عمل مخز لعين! كيف يجرؤ جدي أن يفعل ذلك بي؟ كيف؟ كنت حفيده الوحيد فكيف يتجاوزني إلى صوفيا؟ ليس هذا عدلاً. إني أكرهه. أكرهه و لن أغفر له أبداً طوال حياتي... عجوز مستبد قذر. كنت أريده أن يموت... كنت أريد الخروج من هذا البيت. كنت أريد أن أكون سيد نفسي. و الآن أراني تحت إمرة صوفيا و رحمتها. أتمنى لو أنني مت...

انقطع صوته و انطلق خارج الغرفة.

طقطقت إيديث دي هافيلاند بلسانها طقطقة حادة. همستْ:

- لم لا يوجد ضبط للنفس؟

قالت ماجدا: إني أعرف كيف يشعر تماماً.

قالت إيديث بفظاظة:

- أنا واثقة أنك تعرفين.

- حبيبي المسكين! يجب أن أذهب إليه.

أسرعت إيديث وراءها:

- ماجدا..

اختقى صوتهما. بقيت صوفيا تنظر إلى فيليب كأنها تتوسل إليه و لكنها لم تلق استجابة. نظر إليها ببرود و قد ربط جأشه مرة أخرى و قال:

- لقد لعبت أوراقك بمهارة يا صوفيا!

ثم خرج. و قلت:

- هذا كلام قاسٍ. صوفيا...

مدتْ يديها إلي فأمسكتها بذراعي و قلت:

- هذا كثير عليك يا حبيبتي!

- أعرف تماماً بم يشعرون.

- ما كان ينبغي لذلك العجوز – جدك – أن يقحمك في هذا الحرج.

اعتدلت في وقفتها و قالت:

- هو ظن أنني أهل للأمر، و أنا أهله حقاً. أتمنى... أتمنى لو أن يوستيس لم يتأثَر إلى هذا الحد.

- سيتغلب على ذلك.

- حقاً؟ إنني أتساءل، فهو يكتئب و يفكّر كثيراً. و أبي تأثَّرَ تأثّراً بالغاً أيضاً.

- استجابة أمك مقبولة إلى حدٍّ ما؟

- إنها منزعجة بعض الشيء... من غير الطبيعي أن تأتي إلى ابنتها و تسألها مالاً لتنفقه على المسرحيات. سوف تأتيني قبل أن تذهب أنت و تطلب مني تمويل ((إيديث ثومبسون))!

- و ماذا ستقولين لها؟ إن كان هذا يجعلها سعيدة...

رفعت صوفيا رأسها إلى الوراء و قالت.

- أقول: لا. إنها مسرحية فاسدة و أمي لا تستطيع أداء الدور، هذا هدر للمال.

ضحكتُ ضحكة خفيفة لم أملك نفسي منها، فسألتني صوفيا:

- ما الأمر؟

- قد بدأت أدرك لماذا ترك جدك ماله لك أنت... إنك سرّ جدك يا صوفيا!

*****




- 21 -
لم يصبني شعور بالأسف مثلما أصابني اليوم؛ لأن جوزفين لم تشهد شيئاً من هذا المشهد كله، يا ليتها كانت! إذن لاستمتعت به كثيراً.

تعافت جوزفين بسرعة، و كان متوقعاً أن تعود في أي يوم، لكن حادثاً آخر هاماً فاتها.

كنت في حديقة الصخور مع صوفيا و بريندا ذات صباح عندما اقتربت من الباب سيارة، خرج منها تافيرنر و الرقيب لامب. صعدا الدرج و دخلا المنزل.

وقفت بريندا جامدة تحدق إلى السيارة، و قالت:

- هذان الرجلان! لقد عادا، كنت أظن أن كل شيء قد انتهى.

رأيتها و هي ترتجف.

كانت بريندا قد انضمت إلينا قبل عشر دقائق، و كانت تلتف بمعطف من الفرو الثمين. قالت:

- إذا لم أتنفس الهواء و ألعب التمارين الرياضية فسأصبح مجنونة، و إذا ذهبت خارج البوابة فهناك صحفي يتربص بي لينقضّ علي. إنني كالمحاصرة، إلى متى؟

قالت صوفيا بأن الصحفيين سيملّون الانتظار عما قريب، و أضافت:

- بوسك أن تخرجي بالسيارة.

- أقول لك بأنني أريد أن أقوم بالتمارين الرياضية.

سكتت. ثم قالت فجأة:

- لماذا أنهيت خدمات لورانس يا صوفيا؟

أجابتها صوفيا بهدوء:

- إننا نُعدّ ترتيبات أخرى من أجل يوستيس. و سوف تسافر جوزفين إلى سويسرا.

- لقد أزجعت لورانس كثيراً. إنه يشعر أنك لا تثقين به.

لم ترد صوفيا عليها و في هذه اللحظة وصلت سيارة تافيرنر. قالت بريندا متذمرة و هي تقف هنا ترتجف في هواء الخريف الرطب:

- ماذا يريدان؟ لماذا جاءا؟

كنت أعرف سب مجيئهما. و لم أخبر صوفيا شيئا عن الرسائل التي وجدتها قرب الصهاريج، لكنني أعلم أنهم حملوا هذه الرسائل إلى النائب العام.

خرج تافيرنر من البيت مرة ثانية. و مشى فوق الممر و المرجة الخضراء و جاء إلينا فارتجفت بريندا أكثر. قالت بعصبية:

- ماذا يريد؟ ماذا يريد؟

ثم وصل تافيرنر إلينا. تكلم بغلظة و نبرة رسمية و كان كلامه رسمياً:

- هذا تبليغ باعتقالك. أنت متهمة بحقن أريستايد ليونايدز حقنة الإيسيرين في التاسع عشر من أيلول الماضي. لابد أن أنبهك أن أي شيء تنطقين به قد ينقلب دليلاً عند محاكمتك.

انهارت بريندا. صرختْ:

- لا. لا. لا. هذا كذب! تشارلز – و تعلّقتْ بي – أخبرهم أن هذا ليس صحيحاً. لم أفعل ذلك! لم أكن أعلم أي شيء من ذلك!... مؤامرة. لا تدعهم يأخذونني! هذا كذب... افهمني! هذا ليس صحيحاً. لم أفعل شيئاً!

كان مشهداً فظيعاً، فظيعاً حتى لم أصدقه!

حاولت تهدئتها، و أرخيت أصابعها القابضة على ذراعي، و وعدتها أن أعيّن لها محامياً يتولى كل شيء، و عليها أن تهدئ من روعها.

كلّمها تافيرنر بلطف. قال لها:

- هيا يا سيدة ليونايدز. هل تريدين قبعة؟ لا؟ إذن نذهب في الحال!

تراجعت و عي تنظر إليه بعيني قطةٍ جاحظتين و قالت:

- لورانس... ماذا فعلتم بلورانس؟

قال تافيرنر:

- إن السيد لورانس براون هو الآخر رهن الاعتقال.

سكن جسدها المرتجف و سالت الدموع على خديها و تبعت تافيرنر عبر المرجة إلى السيارة. رأيت لورانس براون و الرقيب لامب يخرجان من البيت، و ركبوا جميعاً في السيارة و انطلقت بهم.

نظرتُ إلى صوفيا. كانت شاحبة و تلمح في وجهها الألم. قالت:

- إنه أمر مخيف يا تشارلز!... مخيف!

- أعرف.

- لابد أن تحضر لها محامياً قديراً. أحسن محامٍ. يجب... يجب أن تأتي بكل مساعدة ممكنة!

- لا أفهم هذه الأمور. لم أر أحداً يُعتقل أمامي من قبل.

- أعلم. فالمرء لا يكون عنده فكرة عن هذه الأشياء.

صمتنا و ما زلت أفكر في الرعب اليائس على وجه بريندا. ثم، فجأو أدركت السبب.

كانت هذه هي ماللامح التي رأيته على وجه ماجدا في أول يوم دخلت فيه البيت المائل ساعة كانت تتحدث عن مسرحية إيديث تومبسون. كانت قالت: ((و بعدها، الرعب التام، ألا تظن ذلك؟)).

الرعب التام. هذا ما كان على وجه بريندا. إنها لم تكن من الصنف المقاتل، وتساءلت إن كانت أعصابُهاتهيئها لارتكاب جريمة قتل، و لعلها لم ترتكبها. ربما فعلها لورانس براون بسب هوسه الشديد و شخصية المتقلبة. وضع محتوى زجاجة صغيرة في زجاجة أخرى صغيرة... عمل سهل بسيط من أجل امرأة أحبها!

- إذن فقد انتهى الأمر – و تنهدت بعمق – ... لكن، لماذا يحبسونهما و لم يظهر بعدُ دليل كافٍ؟

- بل ظهرت بعض الأدلة. رسائل.

- تعني رسائل حب؟

- نعم.

- و هما يحفظان مثل هذه الأشياء؟ يا للحماقة!

نعم. كانا أحمقين حقاً. إنها الحماقة التي تجعلهما لا يستفيدان من خبرة الناس! لا يمكنك أن تفتح صحيفة يومية فلا تقرأ مثالاً لهذه الحماقة: الرغبة في الاحتفاظ بالكلمة المكتوبة، الحب الأكيد المكتوب.

قلت:

- غنه عمل وحشي يا صوفيا، لكنْ لا تغضبي من أجله، فهذا ما كنا جميعاً نأمله من البداية، أليس كذلك؟ هذا قولكِ انت في فندق الماريوت في أول ليلة التقينا. قلت بأنك تتمنين أن يكون الشخص الذي تفكرين فيه هو من قتل جدك. بريندا هي التي خطرت بالك، أليس كذلك؟ بريندا أم لورانس؟

- توقف يا تشارلز. إنك تبعث في قلبي الرعب!

- الآن نستطيع أن نتزوج يا صوفيا؟ لا تصدّيني أكثر؛ فعائلة ليونايدز بريئة من القضية.

حدقت إلي. لم أدرك من قبل لمعة عينيها الزرقاوين. قالت:

- نعم. أعتقد أننا أبرياء الآن منها. إننا أبرياء منها. هل أنت متأكد؟

- يا عزيزتي، ليس لأجدٍ منكم درّة من دافعٍ لقتله.

شحب وجهها فجأة:

- إلاّ أنا يا تشارلز... لقد كان عندي دافع.

قلت ذاهلاً:

- أجل، بالطبع، لكنه لم يكن يدفعك في الحقيقة، فأنت لم تكوني تعلمين بأمر الوصية.

همستْ:

- بل كنت أعلم يا تشارلز.

- ماذا؟

- قد كنت أعلم أن جدي أوصى بماله لي.

- كيف؟

- لقد أخبرني جدي ذلك قبل أسبوعين من مقتله. قال لي فجأة: ((لقد تركت ثروتي كلها لك يا صوفيا. يجب أن تعتني بالعائلة من بعدي)).

حدقت من الدهشة.

- إنك لم تخبريني يوماً بذلك!

- كلا. اسمع: عندما أوضح الجميع أمر الوصية و أنه وقعها فقد ظننتُه ارتكب خطأ بحديثه معي و أنه يحسب أنه ترك لي وحدي. أو أنه – إذا كتب وصية يترك فيها ثروته لي – فإنها إذن قد ضاعت و لن تظهر أبداً. لم أكن أريد أن تظهر الوصية. كنت خائفة.

- خائفة؟ لماذا؟

- أظن... لعله بسبب القتل.

تذكرت نظرة الرعب على وجه بريندا و الهلع غير المبرّر، و ذكرت الرعب الذي خطر ببال ماجدا، الرعب التام، حين فكرتْ أن تمثّل دور القاتلة.

لم يكن الذعر ليدخل في قلب صوفيا، لكنها كانت واقعية و كانت تستطيع أن ترى تماماً أن وصية ليونايدز ستجعلها في موقع الشبهة.

قد عرفت الآن أكثر لماذا رفضت زواجنا و إلحاحها عليّ لأكشف الحقيقة. لا شيء سوى الحقيقة ينفعها. لقد قالت ذلك برغبة عارمة و لهفة أذكرها جيداً.

عدنا نسير نحو البيت. و فجأة، في مكان ما، تذكرت شيئاً آخر كانت قد قالته. لقد قالت صوفيا إنها تقدر أن تقتل شخصاً ما و لكن ذلك سيكون من أجل شيء يستحق القتل.

*****




- 22 -
جاء روجر و كليمنسي يمشيان نحونا عند منعطف في حديقة الصخور. كانت ثياب روجر الواسعة تناسبه أفضل من الثياب الرسمية. كان يبدو متلهفاً ثائراً و زوجته عابسة، و قال:

- مرحباً بكما. أخيراً! ظننت أنهم لن يعتقلوا تلك المرأة القذرة، لا أدري ماذا كانوا ينتظرون؟ حسنا. قد سجنوها مع صديقها البائس و أرجو أن يشنقوهما معاً.

ازدادت كليمنسي عبوساً و قالت:

- لا تكن متوحشاً يا روجر!

- متوحشاً؟... هراء! عندما يُقتل عجوز مسكين بالسُّم عمداً و بدم بارد هو لا حول له و لا قوة ثم ابتهج لأنهم أمسكوا المجرم لينال عقابه تزعمين بأنني متوحش؟ يا ليتني أشنق تلك المرأة بيديّ! وثق العجوز بها فخانته!... حين جاء الشرطة ليقبضوا عليها كانت معكما، أليس كذلك؟ كيف كان حالها؟

قالت صوفيا بصوت اخفت:

- كان موقفاً رهيباً. كانت مذعورة حتى فقدت صوابها!

- إنها تستحق ذلك.

قالت كليمنسي: لا تكن حقوداً!

- إنك يا عزيزتي لن تستوعبي الموقف فهو لم يكن والدك. كنت أحب والدي، ألا تفهمين؟ كنت أحبه.

- لقد فهمت الآن.

قال روجر كلاماً يشبه المزاح:

- ليس لك خيال يا كليمنسي. ماذا لو كان الذي تسمم أنا..؟

رأيت كيف انخفض جفناها و كيف صفقت كفّيها و قالت تزجره:

- لا تقل أشياء كهذه و إن كنت مازحاً!

- لا عليكِ يا عزيزتي. سنرحل من هنا عما قريب.

سألتُها: أأنت مهتمة بالرحيل كثيراً؟

- إن البقاء في هذا البيت يرهقني.

نظرت إليها مندهشاً فابتسمت ابتسامة باهتة و أومأت برأسها:

- ألم تر يا تشارلز أنني كنت أقاتل طوال الوقت؟ أقاتل من أجل سعادتي، من أجل سعادة روجر. كنت أخشى كثيراً أن تقنعه العائلة بالبقاء في إنكلترا، فهذا يعني أن نستمر في العيش معهم و نظل في قبيود الروابط العائلية. كنت أخشى أن تعطيه صوفيا مالاً فيبقى في إنكلترا ظانّاً أن في ذلك راحة و متعة لي! إن مشكلة روجر أنه لا يصغي. لديه أفكار و لكنها خاطئة. إنه لا يعرف شيئاً، و هو مثل أبيه ليونايدز: يظن أن سعادة المرء في راحتها و المال. لكني ساقاتل من أجل سعادتي، سأقاتل. سآخذ روجر بعيداً و أمنحه الحياة التي تناسبه حيث لن يشعر بالفشل. أريده لنفسي بعيداً عنهم جميعاً... بعيداً تماماً!

كان كلامها سريعاً بصوت خافت و يأس جفلت منه، فلم أكن أدرك أنها كانت على حافة الانهيار، و أنا لم أدرك أيضاً كيف أن شعورها نحو روجر كان شعور يأس و تملّك. عندها تذكرت تلك الكلمة الغريبة من فم إيديث دي هافيلاند... ((هذا الحب الأعمى)))، لقد اقتبستْها بنبرة غريبة. تُرى أكانت تفكر في كليمنسي؟

أظن أن روجر كان يحب والده أكثر من أي شخص آخر حتى زوجتِه التي كان مخلصاً لها. لقد أدركت لأول مرة كيف كانت رغبة كيمنسي أن تستحوذ على زوجها رغبة ملحة، و رأيت أن حبها روجر هو محور وجودها، كان هو طفلها، و زوجها، و حبيبها!

جاءت سيارة نحو الباب الأمامي و رأينا فيها جوزفين...

خرجت جوزفين و ماجدا من السيارة. كان رأس جوزفين ملفوفاً بضمادة، لكنها – رغم ذلك – كانت تبدو معافاة! قالت جوزفين من فورها:

- أريد أن ارى سمكتي الذهبية.

و كانت تنظر إلينا و إلى بركة الماء. قالت ماجدا:

- من الأفضل لك يا حبيبتي أن تستريحي أولاً بعض الوقت،و تتناولي بعض الشُّربَة المغذية.

- لا عليك يا أمي. إنني بخير، ثم إنني أكره الشُّربَة المغذية.

ترددت ماجدا. كنت أعلم أن جوزفين كانت تستطيع – في الحقيقة – مغادرة المستشفى منذ بضعة أيام، و أن إشارة من تافيرنر هي التي ابقتها هناك أياماً أْخَر، فلم يكن يريد أن يجازف بسلامة جوزفين حتى يُعتقل المشبوهون. قلت لماجدا:

- أعتقد أن الهواء النفي ينفعها، سأهذب لمراقبتها.

أمسكتُ بجوزفين قبل أن تصل إلى بركة الماء و قلت:

- لقد حدثت جميع الأشياء بينما كنت بعيدة عن البيت.

لم تجبني جوزفين. نظرت بعينيها الضعيفتين إلى البركة و قالت:

- أين فيرْديناند؟

- أيّها هو فيرديناند؟

- ذلك الذي له أربعة ذيول.

- ذلك النوع مسلٍّ، فأنا أحب السمك الذهبي اللامع.

- إنه مشهور!

- و لا أهتم كثيراً بتلك السمكة البيضاء كأنها قميص عفن!

نظرت جوزفين إليّ نظرة إزدراء و قالت:

- هذه سمكة الشيبارنكين. إنها غالية الثمن، أغلى بكثير من السمك الذهبي.

- ألا تودين معرفة ما حدث يا جوزفين؟

- أعتقد أنني أعرف ذلك.

- هل عرفت بالوصية الأخرى و أن جدك ترك ثروته لصوفيا؟

أومأت جوفزين بأسلوب يدل على ضجرها.

- لقد أخبرتني أمي، و على كل حال كنت أعرف ذلك من قبل.

- هل تقصدين أنك سمعت ذلك و أنت في المستشفى؟

- لا. كنت أعلم أن جدي قد أوصى بماله لصوفيا. سمعته يقول لها ذلك.

- أكنت تتنصّتين؟

- أجل، إني أحب التنصّت.

- إنه عمل مخزٍ، و تذكري أن الذين يتنصّتون لا يسمعون خيراً لأنفسهم!

نظرتْ إلي نظرة غريبة:

- بل سمعت ما قاله لها بشأني إن كان هذا ما تعنيه. ناني تغضب و تهيج إن هي أمسكت بي و أنا أتنصّت على الأبواب. إنها تقول بأنه عمل غير طبيعي من ((ليدي)) صغيرة!

- إنها على حق تماماً.

- أوه! لا توجد ((ليدي)) هذه الأيام. كانوا يقولون ذلك في هيئة الخبراء. زعموا أنه لقب قديم.

غيّرتُ مجرى الحديث قائلاً:

- لقد تأخرت في العودة إلى البيت و فاتك الحدث الكبير. لقد قبض رئيس المفتشين على بريندا و لورانس.

كنت أتوقع من جوزفين، فتاة التحري الصغيرة، أن تهتز من هذا الخبر، لكنها رجعت تقول بأسلوبها الممل المثير للجنون:

- أعرف.

- كيف و قد حدث ذلك لتوه؟

- مرت السيارة من جانبنا في الطريق. كان رئيس المفتشين تافيرنر و رجل التحري الذي لبس الحذاء السويدي في السيارة و خلفهما بريندا و لورانس فعرفت أنهما لا شك قد اعتُقلا. أرجو أن يكون قد حذّرهما! بيجب عليه ذلك.

أكدت لها أن تافيرنر قد اتبع الأصول بحزم. قلت معتذراً:

- نسيت أن أخبره بأمر الرسائل. لقد وجدتها وراء الصهاريج. كنت سأدعك تخبرينه و لكنك تعجلت في الذي فعلتِه.

تحسست جوزفين راسها بيدها الحيوية، و قالت بزهو:

- كدتُ أكون مقتولة. لقد قلت لك بأن الوقت حان لتظهر جريمة قتل ثانية. كانت غرفة الصهاريج مخبأ فاسداً لهذه الرسائل. عرفت ذلك منذ رأيت لورانس يخرج منها ذات يوم. لم يكن رجلاً نافعاً يُحسن إصلاح الصنابير أو الأنابيب أو الكهرباء، فعرفت أنه كان – لا شك – يخفي شيئاً هناك.

و نقطع صوتي عندما سمعت صوت إيديث دي هافيلاند ينادي آمراً:

- جوزفين، جوزفين، تعالي هنا في الحال.

تنهدتْ جوفزين و قالت:

- مزيداً من الجلبة، لكن من الأفضل ان أذهب. يجب عليك أن تطيع إن كان الآمر هو الخالة إيديث.

ركضت عبر المرجة، و تبتُها ببطء.

بعد كلمات قليلة دخلت جوزفين إلى البيت و جئتُ إلى إيديث عند المصطبة حيث أرعبني القلق و المعاناة في وجهها، فقد بدت منهكة و مهزومة. و لمحتْ في وجهي اهتماماً و حاولتْ أن تبتسم. قالت:

- يبدو أن تلك الطفلة قد جلبت لنفسها السوء من مغامرتها، سوف نعتني بها أحسن، لكنّ هذا غير ضروري الآن – تنهدتْ – ... ما أسعدني لأن الأمر قد انتهى! يا له من عرض! إذا تم سجنك بتهمة قتلٍ فلا أقل من بعض الكرامة. إنني لا أصبر على أناس مثل بريندا التي انهارت و كانت تصرخ... هؤلاء الناس لا يملكون الجرأة. كان لورانس براون كأرنبٍ حُشر في زاوية!

قلت لها مشفقاً:

- شريران مسكينان!

- نعم، شريران مسكينان. أظن أنها تدرك كيف تحفظ نفسها، أليس كذلك؟أقصد البحث عن محامين أكْفاء و نحو ذلك!

ما أغرب هذا الأمر: كلهم يكرهون بريندا لكنهم يهتمون أن تحصل على فرصة للدفاع عن نفسها!

و ما زالت إيديث تتكلم:

- كم يطول الأمر؟ كم يستغرق الأمر كله؟

قلت بأنني لا أعرف تماماً، فربما يجري التحقيق في مركز الشرطة ثم يُنقلان إلى المحكمة. و قدرت أن يتم ذلك في غضون ثلاثة أشهر أو أربعة، و إذا تمت إدانتهما فسيكون استئناف.

- و هل تظن أن تتم إدانتهما؟

- لا أدري. لا أدري ما هي أدلة الشرطة تماماً. هناك رسائل.

- رسائل حب؟ إذن فقد كانا عشيقين.

- أجل.

عبستْ:

- لست سعيدة لسماع ذلك يا تشارلز. أنا لا أحب بريندا. كنت من قبلُ أكرهها كثيراً و قلت أشياء قاسية بحقها، لكني أشعر الآن برغبة في أن تحصل على فرصة، كل فرصة ممكنة! كان أريستايد سيتمنى ذلك. أتمنى أن تلقى بريندا العدل و الإنصاف!

- و لورانس؟

هزت كتفيها و قالت:

- لورانس! على الرجال أن يعتنوا بأنفسهم. ما كان أريستايد يغفر لنا لو أننا...

لكنها قطعت كلامها فجأة:

- لابد أن وقت الغداء قد حان. من الأفضل أن ندخل.

شرحت لها بأنني مسافر إلى لندن.

- في سيارتك؟

- نعم.

- فهل تستطيع أن تأخذني معك؟ أعتقد أنه سُمح لنا أن نخرج؟

- أجل، لكني أظن أن ماجدا و صوفيا ستذهبان إلى لندن بعد الغداء و سوف تشعرين براحة أكبر معهما؛ لأن سيارتي بمقعدين فحسب.

- لا أريد مرافقتهما. خذني معك و لا تتكلم كثيراً.

تفاجأت، لكني أطعتُها. لم نتكلم كثيراً في طريقنا إلى المدينة. سألتها:

- أين تريدين؟

- شارع هارلي.
أصابني بعض الخوف لكني لم أحب أن أنطق بكلمة. قالت:

- كلا، إن الوقت مبكر جداً. أنزلني في ديبنًهامز لآكل الغداء هناك ثم أذهب إلى شارع هارلي.

قلت: أرجو.. ثم سكتّ.

- من أجل هذا لم أكن أريد مرافقة ماجدا.. تثير النقاش و تخلق ضجة كبيرة!

- إني آسف جداً!

- لا حاجة بك للأسف. لقد عشتُ حياة طيبة. حياة طيبة جداً.

ثم ابتسمت ابتسامة مفاجئة و قالت:

- و هي لم تنتهِ بعدُ!

*****



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 9:17 pm

- 23 -
لم أكن قد رأيت والدي منذ بضعة أيام. وجدته مشغولاً بأمور أخرى غير قضيتنا فذهبت أبحث عن تافيرنر.

كان تافيرنر يستيمتع بفترة راحة قصيرة، و لم يكن عنده ما يشغله و كان يرغب في الخروج و تناول العصير معي.

هنأته على كشف القضية فتقبّل تهنئتي بفتور و قال:

- لقد انتهى ذلك و لدينا قضية. لا أحد ينكر أننا الآن في قضية.

- أتظن أنك تنح في إدانتهما؟

- تستحيل الإجابة على ذلك، فالدليل الذي بحوزتنا غير مباشر، و هو ما يكون غالباً في قضايا القتل. إن شيئاً كثيراً يعتمد على أقوالهما في هيئة المحلفين و نظرة المحلفين فيهما.

- و ما هو أثر الرسائل؟

- تبدو رسائل خطيرة لمن ينظر فيها أول مرة يا تشارلز. إن فيها إشارات إلى حياتهما معاً بعد أن يموت زوجها و كلمات مثل: ((لن يطول الأمر))، لكن محامي الدفاع يجتهد أن يلويها إلى جهة أخرى مدعياً أن الزوج كان كبيراً جداً، إذن فقد كانا بالطبع يتوقعان موته، و هو أمر معقول. ليس فيها ذكر صريح للسم، لكنّ فيها بعض فقرات ربما تعني ذلك، و هذا يرجع إلى القاضي الذي يتولى القضية، فإن كان هو العجوز كاربِرّي فلن يرحمهما... رجل مستقيم يغضب للخيانة الزوجية! أظن أن إيغلز أو هامفري كير سيحضر ليدافع عنهما. هامفري رائع في هذه القضايا لكنه يجب أن يكون للمتهم سجل حربي جريء أو شيء كهذا ليساعده في العمل... إن المسألة ستكون: ((هل تميل هيئة المحلفين إليهما؟)) أنت لا تعرف أمر هؤلاء المحلفين لكن هذين الاثنين يا تشارلز لا يستحقان عطف الناس عليهما في الحقيقة... امرأة حسناء تزوجت كهلاً كبيراً من أجل ماله. أما براون فهو فتىً هادئ غير عنيف أو عصبي المزاج.
الجريمة مألوفة – يا تشارلز – كثيراً. منسجمة تماماً مع نموذج يجعلك تصدق أنهما لم يقترفاها يقيناً. ربما يقررون أنه فعلها و أنها لم تكن تعلم عن الأمر شيئاً أو أنها هي ارتكبتها بينما لم يكن يعلم هو شيئاً عنها. و لعلهم يقررون أنهما كلاهما مشترك فيها.

- و ما قولك أنت؟

رمقني بنظرو جامدة خالية من التعبير:

- أنا لا أقول شيئاً. لقد عرضت الحقائق و رُفعت إلى المدعي العام، و تقرر أن هناك قضية. هذا كل ما في الأمر. لقد قمت بواجبي و انتهى الآن دوري، فهل عرفت الأمر يا تشارلز؟

لم أكن أعرف. رأيت تافيرنر لم يكن سعيداً لسبب ما.

لم أفْضِ بما في نفسي لوالدي إلا بعد ثلاثة أيام، و هو لم يذكر لي القضية أبداً، و كان بيننا شيء من التحفظ، أعتقد أنني كنت أعرف سبه و كان عليّ أن أكسر هذا الحاجز بيننا، فقلت:

- علينا أن ننتهي من هذا الأمر. إن تافيرنر ليس مقتنعاً أنهما فعلاها، كما أنك أنت لست مقتنعاً أيضاً.

هز والدي رأسه و قال قولة تافيرنر:

- ليس لنا الآن من الأمر شيء. هناك قضية ينبغي حلها، لا شك في ذلك.

- لكنك لا تظن أنت و لا تافيرنر أنهما مذنبان.

- هذا الأمر يقرره المحلفون.

- أبي، لا تتهرب متي بهذه المصطلحات. ما هو رأيك، رأيكما كلاكما؟

- إن رأيي الشخصي ليس أفضل من رأيك يا تشارلز.

- بل هو كذلك، فإن خبرتك أفضل من خبرتي.

- إذن أصدقك... إنني لا أعرف.

- هل يمكن أن يكونا مذنبين؟

- أوه! نعم.

- لكنك ترتاب في ذلك.

- و كيف للمرء أن يتأكد؟

- لا تتهرب مني يا أبي. لقد كنت متأكداً من ذلك في أوقات أخرى، أليس كذلك؟ كنت متأكداً تماماً من غير أدنى شك.

- بلى، أحياناً و ليس دائماً.

- أرجو من الله أن تكون في هذه المرة متأكداً!

- و أنا أيضاً أرجو ذلك!

- صمتنا كلانا. كنت أفكر في أمر هذين الاثنين اللذين تسللا من الحديقة وقت الغسق وحيدين خائفين. كانا خائفين. ألم يكن الخوف يدل على الشعور بالذنب؟ لكني أجبت نفسي: ليس ذلك بالضرورة؛ فقد كان لورانس و بريندا خائفين من الحياة. لم يكن عندهما ثقة بالنفس و لا قدرة على اجتناب الخطر و الهزيمة، و كانا يعرفان أن الحب غير الشرعي الذي يؤدي إلى ارتكاب جريمة ربما يورطهما في أية لحظة.

تكلم والدي بهدوء و لطف:

- هيا يا تشارلز، دعنا نواجه الحقيقة، إنك ما زلت ترى في نفسك أن أحد أفراد عائلة ليونايدز هو القاتل، أليس كذلك؟

- ليس في الحقيقة، إني أتسائل فقط.

- بل تعتقد ذلك. ربما تكون مخطئاً لكنك تعتقده.

- أجل.

- لماذا؟

- لأن.. لأن.. نعم، هذا هو... لأنهم يعتقدونه أنفسهم.

- هم يعتقدون ذلك؟ هذا مثير للاهتمام! أتقصد أنهم يشتبهون بعضهم أو أنهم يعرفون القاتل؟

- لا أدري، الأمر كله غامض جداً. على كل حال فهم يحاولون أن يحجبوا عن أنفسهم المعرفة.

أومأ والدي برأسه. قلت:

- ليس روجر. روجر يعتقد من كل قبله أن الفاعل بريندا و يتمنى و يدعو أن تعلّق على المشنقة. مشكلة روجر سهلة؛ لأنه بسيط و واثق من نفسه و ليس في صدره شيء. لكن الآخرين يميلون للاعتذار، مرتبكون، يصرّون عليّ بأن أتأكد أن بريندا قد حصلت على أفضل محامٍ و أُعطيت كل فرصة ممكنة. لماذا؟

- لأنهم لا يعتقدون في قلوبهم أنها مذنبة. أجل، هذا صحيح. تشارلز، من يكون قد فعلها يا ترى؟ هل تحدثت إليهم جميعاً؟ من هو أفضل رهان؟

- لا أعرف، و هذا يدفعني للجنون، لا أحد منهم تنطبق عليه صورة القاتل! لكني أشعر شعوراً صادقاً أن القاتل هو أحدهم.

- صوفيا؟

- لا، يا إلهي! لا.

- إن الاحتمال موجود في ذهنك يا تشارلز، نعم، إنه كذلك. لا تحاول إنكاره، ألم يخطر في ذهنك يا تشارلز؟ بلى، و هو وجه قوي لن تعترف به. ماذا عن الآخرين؟... فيليب؟

- من أجل دافع غريب جداً فقط.

- قد يكون الدافع غريباً أو لعله سخيف قليلاً. ما هو دافعه؟

- إنه شديد الغيرة من روجر. كان غيوراً طوال حياته. إن تفضيل روجر عليه قد دفعه إلى الوحدة و الخلوة بنفسه، و كان روجر يوشك على الانهيار مادياً ثم سمع العجوز فوعده بالمساعدة، فماذا لو علم فيليب ذلك؟ لو مات العجوز تلك الليلة فلن ينال روجر المساعدة فيسقط و يخرج من العمل. أعرف أن هذا سخيف!

- كلا، بل هو أمر شاذ ربما يحدث، فهو سلوك بشري متوقع. و ماذا عن ماجدا؟

- الحق أنها طفولية. إن تصرفاتها لا تناسب مكانتها، لكني ما كنت لأفكر يوماً أنها قد تكون متورطة لولا عزمها المفاجئ على إرسال جوزفين إلى سويسرا. لعلها قد خافت من شيء تعرفه جوزفين.

- ثم ضُربت جوزفين على رأسها؟

- لا يفعل ذلك والدتها.

- و لم لا؟

- لكن يا أبي، إن الأم لا يمكن...

- تشارلز، تشارلز، ألا تقرأ بيانات الشرطة؟ كم جريمةً سببُها كراهية أم لأحد أطفالها!... لكن، لعلها تحب أطفالها الآخرين. لا شك في بعض الصلة أو سبب ما يصعب – في الغالب – معرفته.

اعترفت لأبي:

- إنها تمازح جوزفين و تقول بأنها ليست ابنتها.

- أوكانت الطفلة تهتم؟

- ربما.

- مَن غيرهم يا تشارلز؟

- روجر لم يقتل والده. أقسم على ذلك.

- استثنِ روجر إذن. زوجته ما اسمها... كليمنسي؟

- أجل. لو كانت هي التي قتلت العجوز ليونايدز فإن هذا لسبب غريب جداً.

و سردت عليه حديثي مع كليمنسي، و قلت:

- لعلها – رغبة منها في إخراج روجر من إنكلترا – قتلت أباه العجوز. لقد اقنعت روجر أن يهذب و لا يخبر والده ثم عرف العجوز الأمر و كان يريد دعم شركة التجهيز الغذائي، فأُحبطت آمال كليمنسي و خطتها جميعاً. كما أنها تهتم بأمر روجر و هي يائسة... كانت تحبه حباً أعمى.

- أنك تقول ما قالته إيديث دي هافيلاند.

- نعم، و إن إيديث واحدة أخرى. أظنها قد تفعلها لكني أجهل السب، ربما رغبةً في السيطرة على أهل البيت. إنها تحب الهيمنة.

- و هي مهتمة أيضاً أن تلقى بريندا محامي دفاع قديراً، أليس كذلك؟

- بلى، و ربما يدل هذا على ضميرها الحي، فلو أنها ارتكبت الجريمة لأرادت أن تلصق التهمة ببريندا.

- ربما، و لكن، هل كانت ستصرع جوزفين؟

- لا. و هذا يذكرني بأن جوزفين قالت لي شيئاً ما زال يدق في رأسي و لا أستطيع أن أتذكر ما هو؟ لقد نسيته، لكنه شيء يخالف هيئته. ليتني أستطيع أن أذكره!

- لا عليك، سوف تذكره. أفي ذهنك شيء أو اسم آخر؟

- نعم، كثيراُ جداُ. ماذا تعرف عن شلل الأطفال؟ أقصد: ما أثره في الشخصية؟

- يوستيس؟

- أجل. كلما فكرت في هذا الأمر أكثر بدا لي أن يوستيس يفعلها: كرهيته و استياؤه من جده و كآبته و غرابة أطواره. إنه الوحيد في العائلة الذي يمكن أن يقتل جوزفين بطريقة لا ترحم إذا كانت تعرف عنه شيئاً. و لعلها تعرف؛ لأن جوزفين تعرف كثيراً و تدونه في دفتر صغير...

و سكتُّ فجأة ثم صحت: يا إلهي! يالحماقتي!

- ماذا أصابك؟

- الآن عرفت ما الخطأ؟ لقد افترضنا أنا و تافيرنر أن تخريب غرفة جوزفين و البحث المحموم فيها كان من أجل تلك الرسائل، كنت أظن أنها تخفيها في غرفة الصهاريج، لكنها – حين لكمتني البارحة – قالت إن لورانس هو الذي كان يخبئها فيها؛ لأنها شاهدته يخرج من غرفة الصهاريج فذهبت تتلصص فوجدت الرسائل. ثم، بالطبع، قرأتْها، لكنها تركتها مكانها.

- حسناً؟

- ألا تفهم؟ كيف يبحث ذلك الشخص عن الرسائل في غرفة جوزفين؟ لا جرم أنه كان يريد شيئاً آخر.

- و ما ذلك الشيء..

- الدفتر الأسود الصغير الذي كانت تدون فيه نتائج أعمال التحري الذي تقوم به. إنه الشيء الذي كان يبحث ذلك الشخص عنه. و أظن أن ذلك الشخص لم يجده، بل أعتقد أن جوزفين ما زالت تحفظه، فإن كان كذلك...

و هممت بالنهوض. قال أبي:

- إن كان كذلك فإنها ما تزال في خطر، أليس هذا ما كنت تقصده؟

- بلى، لن تنجو من الخطر حتى ترحل إلى سويسرا... إنهم يخططون لإرسالها.

- هل تريد هي ان تذهب؟

- فكرت ثم قلت:

- لا اظن.

قال أبي بحدة:

- إذن فربما لا تذهب. لكنك مصيب في شأن الخطر. خيرٌ لك أن تذهب هناك.

صرخت: يوستيس؟ كليمنسي؟

قال والدي:

- الحقائق في ذهني يا بنيّ تشير إلى وجه واحد بوضوح. إني أعجب، كيف لا تراها هكذا؟ إنني..

فتح جلوفر الباب:

- عذراً يا سيد تشارلز. مكالمة لك: الآنسة ليونايدز تتحدث من سوينلي دين. الأمر عاجل.

ظننت أن الأمر تكرار مرعب: هل سقطت جوزفين ضحية مرة أخرى و هل أصاب القاتل هذه المرة هدفه؟

أسرعت إلى الهاتف:

- صوفيا؟ أنا تشارلز.

جاء صوت صوفيا و فيه نبرة من اليأس:

- تشارلز. الأمر لم ينته بعدُ! إن القاتل لا زال هنا!

- ماذا تقصديم؟ ماذا جرى؟ هل هي... جوزفين؟

- ليست جوزفين بل ناني!

- ناني؟

- أجل. كان على الطاولة بعض الكاكاو. كاكاو لجوزفين. لم تشربه. تركته على الطاولة. ناني حسبت أن من المؤسف سكبه فشربتْه!

- المسكينة ناني! و كيف حالها؟

انقطع صوت صوفيا:

- أه! تشارلز، لقد ماتت!

*****



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
بداي الشلاحي
Admin
بداي الشلاحي


عدد المساهمات : 1007
تاريخ التسجيل : 18/08/2008

رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية البيت المائل - أجاثا كريستي   رواية البيت المائل - أجاثا كريستي Emptyالأربعاء سبتمبر 15, 2010 9:20 pm


- 24 -
عدنا إلى الكابوس ثانية. هذا ما خطر بالي بينما كنت و تافيرنر في السيارة خارجيْن من لندن كما فعلنا في رحلتنا الأولى.

كان تافيرنر بين فترة و أخرى يخفف من توتره بالشتائم في حين كنت أكرر أنا من وقت لآخر بغباء و دون فائدة: إذن فلم يكن بريندا و لورانس! لم يكن بريندا و لورانس!

هل كنت حقاً أعتقد أنهما هما الفاعل؟ كنت سعيداً بهذا الاعتقاد لأنه يدفع عن الآخرين الاختمالات الأكثر شراً!

كانا يحبان بعضهما و كتبا رسائل عاطفية سخيفة، و أخذتهما الآمال بموت العجوز قريباً بسلام و سعادة. لكن، هل كانا يرغبان موته حقاً؟ كنت أشعر أن الشوق و القنوط في الحب غير السعيد أنسب لهما من الزواج. كنت أظن أن بريندا تتوق فقط إلى حياة رومانسية، و لورانس أظنه يستمتع بالإحباط و أحلام المستقبل الغامض و يفرح للسعادة الروحية أكثر من إشباع الغريزة الجسدية.

لقد أوقعهما الخوف في فخ فلم يكونا ذكيين في الخروج من هذا المأزق. إن لورانس كان غبياً إذ لم يتلف رسائل بريندا، و أظن أن بريندا قد أتلفت رسائله لأن أحداً لم يجدها. و لم يكن لورانس هو من وضع ساندة الباب الرخامية فوق باب غرفة الغسيل، بل شخص آخر مازال يستر وجهه بقناع.

توقفت السيارة عند الباب. خرج تافيرنر و تبعته، و رأينا رجلاً قدّرت أنه من الشرطة السرية في الصالة. حيا تافيرنر و جذبه تافيرنر إليه.

لفت انتباهي كومة من الأمتعة في الصالة عليها رقاع و قد رُزمتْ لتُحمل، و عندما نظرت إليها نزلت كليمنسي عن الدرج و دخلت من الباب المفتوح أسفله. كانت تلبس فستانها الأحمر و عليها معطف و قبة حمراء. قالت:

- لقد جئت في الوقت المناسب لتودعنا يا تشارلز.

- و هل انتما مسافران؟

- سنذهب إلى لندن الليلة. سوف تطير طائرتنا في وقت مبكر من صباح الغد.

كانت هادئة تبتسم و قد بدا الترقب في عينيها.

- لكنكما لا تستطيعان الذهاب الآن بالتأكيد؟

- و لم لا؟

كان صوتها قاسياً. قلت:

- من أجل هذه الوفاة...

- ليس لنا أية علاقة بوفاة ناني.

- ربما، لكن...

- لماذا تقول: ((ربما))؟ لا شأن لنا بالأمر. كنت أنا و روجر في الطابق الأعلى نحزم أمتعتنا. لم ننزل لحظةً قطُّ ساعة تُرك الكاكاو على طاولة الصالة.

- هل يمكنك أن تثبتي ذلك؟

- أستطيع إثباته عن روجر، و روجر يستطيع إثباته عني.

- ألا شيء غير هذا؟ أنتما زوجان، تذكرا ذلك.

اشتعل غضبها.

- مستحيل يا تشارلز! إنني و روجر راحلان لكي نحيا حياتنا الخاصة. لماذا نسمّ عجوز حمقاء لم تؤذِنا أبداً؟

- لعلكما لم تكونا تقصدان تسميمها هي.

- و نحن لا نسمم طفلة أيضاً.

- هذا يعتمد على الطفلة في الواقع، أليس كذلك؟

- ماذا تقصد؟

- جوزفين ليست طفلة عادية. إنها تعرف عن الناس كثيراً. إنها...

سكتّ. و ظهرت جوزفين من الباب تسير نحو غرفة الاستقبال تقضِم تفاحة و عيناها تلمعان و خداها متوردان و هي فرحة فرحاً شديداً. قالت:

- لقد سُمّمتْ ناني مثل جدي... أمر مثير، أليس كذلك؟

سألتها بقوة:

- ألا يزعجك ذلك؟ ألم تكوني تحبينها؟

- قليلاً. كانت تزجرني دائماً و تثير الضجة.

سألتها كليمنسي:

- هل تحبين أحداً يا جوزفين؟

أدارت جوزفين عينيها الغوليتين نحو كليمنسي:

- أحب خالتي إيديث كثيراُ، و أحب يوستيس لكنه نذْل، لم يشاركني في اكتشاف الفاعل.

قلت: من الأفضل لك يا جوزفين أن تكفّي عن تحرياتك، فهذا عمل غير آمن!

- لا حاجة أن أتحرّى شيئاً منذ الآن. إني أعرف.

صمتنا لحظة. كانت عينا جوزفين ساكنتين لا تطرفان و مازالتا تنظران إلى كليمنسي.

و سمعت صوتاً كالشهيق فاستدرت إلى الخلف. كانت إيديث دي هافيلاند تقف في وسط الدرج لكنها لم تكن صاحبة الشهيق، فقد جاء الصوت من وراء الباب الذي جاءت منه جوزفين لتوها.

خطوت نحوه بخفة و فتحته بقوة فلم أر أحداً.

أصابني قلق شديد. كان بالباب شخص و سمع كلمات جوزفين هذه. عدت و أمسكت جوزفين من ذراعها و هي تأكل تفاحتها و تحدق في كليمنسي بثبات. ظننت أن وراء هدوئها رضىً خبيثاً. قلت:

- هيا يا جوزفين. سنذهب لنتحدث قليلاً.

أظن أن جوزفين تمنعت لكني لم اكنت أحتمل أي كلام تافه. أسرعت بها رغماً عنها إلى الجناح الذي تسكن فيه، و أخذتها بقوة إلى غرفة صغيرة لا تستعمل حيث لن يسمعنا أحد. أغلقت الباب بقوةو أجلستها على كرسي و أخذت كرسياً آخر و سحبته للأمام حتى قابلتها، و قلت:

- و الآن يا جوزفين. ستصارحينني. ماذا تعرفين؟

- كثيراً جداً من الأمور.

- لا شك في هذا، فرأسك مليء بالأخبار المتصل منها بالقضية و غير المتصل، لكنك تعلمين تماماً ما أقصده، أليس كذلك؟

- بلى، إني أعرف. لست غبية.

لم أدرِ إن كان هذا ذماً لي أم للشرطة لكني لم أكترث له. و قلت:

- هل تعرفين من وضع لك شيئاً في الكاكاو؟

أومأت جوزفين برأسها أنْ ((نعم)).

- و تعرفين من دسّ السم لجدك؟

أومأت أنْ ((نعم)) أيضاً.

- و تعرفين من ضربك في رأسك؟

أومأت أنْ ((نعم)) مرة ثالثة.

- إذن فستخبرينني بما تعرفينه، ستخبرينني بكل شيء... الآن.

- لن أفعل.

- يجب أن تفعلي. إن عليك أن تخبري الشرطة بكل معلومة لديك.

- لن أخبر الشرطة بشيء؛ لأنهم أغبياء يظنون أن بريندا هي القاتل أو لورانس، و أنا لست غبية مثلهم. كنت أعلم تماماً أنهما لم يفعلاها. كانت لدي فكرة عن الفاعل من البداية، ثم أجريت نوعاً من اختبار، و الآن أعرف أنني كنت على حق.

أنهت كلامها و فرحة الانتصار على وجهها.

دعوت الله أن يلهمني الصبر، و حدقت إليها ثانية:

- اسمعيني يا جوزفين: أظن أنك ذكية جدا... – بدت جوزفين مسرورة – ... لكنّ ذكاءك لن ينفعك كثيراً إذا لم تستمتعي بالحقيقة. ألا ترين – أيتها الحمقاء – أن كتمانك أسرارك بهذه الطريقة السخيفة يجعلك في خطر كبير؟

- بل أفهم ذلك بالطبع.

- لقد نجوتِ من الموت مرتين بأعجوبة. في المرة الأولى أوشكت أن تموتي، و في المرة الثانية ضحى شخص آخر بحياته. ألن تفهمي أن التجول في البيت و الجهر بأعلى صوتك أنك تعرفين مَن القاتل يهيء لمحاولة ثالثة فتموتي أو تموت نفس أخرى؟

قالت جوزفين بمتعة:

- في بعض القصص يُقتل الشخص تلو الآخر و تنتهي بالقبض على القاتل، لأنه، أو لأنها الشخص الوحيد الذي بقي.

- هذه ليست قصةً بوليسية. هذا بيت ((ثري غابلز)) في سوينلي دين، و أنت فتاة صغيرة حمقاء قرأتْ أكثر مما يفيد مصلحتها! سأجعلك تخبرينني بما تعرفينه لو تطلّب الأمر استعمال القوة.

- أستطيع دائماً أن أخبرك بشيء غير صحيح.

- لكنك لن تفعلي. على أية حال فماذا تنتظرين؟

- إنك لا تفهم. لعلي لا أخبرك أبداً، فربما كنت أحب هذا الشخص.

و سكتت كأنها تريد أن أفهم مغزاها ثم قالت:

- لو أخبرتك فسأفعل هذا برطيقة صحيحة: أجمع الجميع فيجلسون حولي ثم أفصّل الأمر كله مع الأدلة، ثم أقول على بغتة: ((و الفاعل هو أنت..)).

و أشارت بسبابتها بطريقة مثيرة إلى إيديث دي هافيلاند التي دخلت الغرفة و قالت:

- ضعي لب التفاحة في تلك السلة يا جوزفين، هل معك منديل؟ أرى أصابعك دبقة، سآخذك في السيارة.

و قابلت عيناي عينيها بإشارة ذات دلالة. قالت:

- ستكونين آمنة و أنت خارج البيت في الساعة القامة أو قريباً من ذلك.

أبدت جوزفين تمردها فقالت خالتها:

- سنذهب إلى لونغ بريدج و نشتري البوظة.

لمعت عينا جوزفين و قالت تخاطب خالتها:

- اثنتان؟

- ربما. اذهبي الآن و البسي قبعتك و معطفك و وشاحك الكحلي، فالطقس اليوم بارد. الأفضل أن ترافقها يا تشارلز حتى تلبس ملابسها. لا تتركها، فلدي رسالتان أريد كتابتهما.

جلست إيديث على الطاولة و رافقتُ جوزفين خارج الغربة. كنت آخشى خطراً وشيكاً على الطفلة و قريباً منها!

و بعد أن تزينت جوزفين دخلت صوفيا فأذهلها حضوري:

- هل تحولت يا تشارلز إلى مربية أطفال؟ لم أعلم أنك هنا!

تباهت جوزفين و قالت:

- إني ذاهبة إلى لونغ بريدج مع خالتي إيديث. سنأكل البوظة.

- في يوم كهذا؟

- الوبظة دائماً لذيذة، و حين تأكلينها تشرعين بالدفء.

عبست صوفيا و أزعجني لونها الشاحب و الخطوط السوداء تحت عينيها بسب الارهاق.

و رجعنا ثانية حيث إيديث. كانت تكتب على ظرفين، و نهضت بخفة و قالت:

- الآن سننطلق. أخبرت إيفانز أن يحضر سيارة ((الفورد)).

- و تركزت عيناي ثانية على الحقائب و المصقات الزرقاء عليها فأثارت في نفسي قلقاً غامضاً.

كانت سيارة الفورد أمام البيت. لبست إيديث دي هافيلاند قفازها و نظرت إلى السماء:

- إنه يوم جميل! الجو بارد لكنه ينشط البدن... يوم خريفي إنكليزي حقيقي! الأشجار تبدو جميلة بأغصانها العارية تحت السماء بينما تعلّقت بها ورقة ذهبية أو ورقتان!

صمتت قليلاً ثم التفت إلى صوفيا و قبّلتها. قالت:

- وداعاً يا عزيزتي. لا تقلقي كثيراً، يجب احتمال أمور معينة. هيا يا جوزفين.

و دخلت في السيارة تتبعها جوزفين. لّوحتا لنا بينما انطلقت السيارة. قلت:

- أعتقد أنها على حق، من الأفضل إبقاء جوزفين بعيدة فترة من الزمن، لكنّ علينا أن نجعل تلك الطفلة تخبرنا بما تعرفه يا صوفيا.

- لعلها لا تعرف شيئاً... إنها تتباهى فقط. جوزفين تحب أن تجعل نفسها مهمة.

- الأمر أخطر من هذا, هل تعلمين ما هو السم الذي كان في الكاكاو؟

- يعتقدون أنه ديجيتالين. إن خالتي إيديث تتناولة الديجيتالين لقلبها، و في غرفتها زجاجة مليئة منه و لكنها الآن فارغة.

- كان ينبغي أن تحفظ مثل هذه الأشياء بحرص أكبر.

- كانت تفعل ذلك، و لكن ليس صعباً على شخص ما أن يعلم مخبأ المفتاح.

- شخص ما؟ من هو؟

نظرت إلى كومة الأمتعة قائلاً:

- لن يذهبا، يجب ألاّ يسمح لهما بالرحيل.

تفاجأت صوفيا:

- روجر و كليمنسي؟ هل تعتقد يا تشارلز؟

- ما رأيك أنت؟

حركت صوفيا يديها حركة يأس و همست:

- لا أعرف يا تشارلز. كل ما اعرف أنني عدت إلى الكابوس ثانية!

- أعرف. في هذا كنت أفكر و أنا قادم مع تافيرنر.

- هذا كابوس حقاً. تمشي بين الناس و تنظر في وجوههم، و فجأة تتغير الوجوه فلا تعرف منها وجهاً... فقد أصبح الوجه غريباً... غريباًً وحشياً!... تشارلز، هيا نخرج، هيا نخرج كي نصبح في أمان! إني خائفة ما دمت في هذا البيت!

*****




- 25 -
مكثنا في الحديقة طويلاً و لم نذكر شيئاً عن الرعب الذي سكن في قلبنا، و بدلاً من ذلك تحدثت صوفيا بكلام عاطفي في شأن ناني و الألعاب التي كانوا يلعبونها مع ناني و هم أطفال و الحكايا التي كانت العجوز تحكيها لهم عن روجر و أبيهم و الإخوة الآخرين.

- كانوا أطفالها في الحقيقة. عادت إلينا لتساعدنا أثناء الحرب عندما كانت حوزفين طفلة رضيعة و كان يوستيس غلاماً صغيراً مسلياً.

كانت الذكرى بسلماً شافياً لصوفيا، و قد شجعتها على الحديث.

تساءلت: ماذا يفعل تافيرنر؟ لعله يستجوب أهل البيت.

ذهبتْ سيارة فيها مصور و شرطيان و وصلت سيارة إسعاف.

ارتعشت صوفيا قليلاً. و في الحال انطلقت سيارة الإسعاف فعرفنا أنهم قد حملوا جثة ناني إلى المشرحة.

و ما زلنا في الحديقة نجلس أو نمشي و نتحادث، لكن كلماتنا كانت قانعاً لأفكارنا الحقيقية. و أخيراً قالت صوفيا و هي ترتجف:

- الوقت تأخر كثيراً، أظلمت السماء، يجب أن ندخل. الخالة إيديث و جوزفين لم تعودا بعد! كان يجب أن تعودا في هذه الساعة، أليس كذلك؟

أستيقظ في نفسي نوع غامض من القلق... ماذا حدث؟ هل كانت إيديث تتعمد إخراج الطفلة من البيت المائل؟

دخلنا البيت. سحبتْ صوفيا الستائر جميعاً و أشعلت النار و بدت غرفة الاستقبال الكبيرة متناغمة مع جو غير حقيقي من الرفاهية العتيقة، و كانت على الطاولة مزهريات كبيرة من البرونز فيها أزاهير الأقحوان.

قرعت صوفيا الجرس فجاءت خادمة عرفتُ أنها كانت تعمل في الطبق العلوي تحمل الشاي. كانت عيناها حمراوين و تعطس كثيراً، و رأيتها تنظر إلى الوراء بسرعة و خوف.

جاءت إلينا ماجدا، لكن شاي فيليب أرسل إليه في المكتبة. كان دور ماجدا دور امرأة حازنة جامدة. تكلمت قليلاً و قالت مرة واحدة كأنها مشغولة البال:

- أين إيديث و جوزفين؟ لقد تأخرتا.

كنت أشعر بالقلق يزداد في نفسي. و سألت ماجدا:

- أما زال تافيرنر في البيت؟

- ربما.

فذهبت أبحث عنه و أخبرته أني قلق على الآنسة دي هافيلاند و الطفلة.

ذهب إلى الهاتف في الحال و ألقى أوامره، و قال:

- سأخبرك عندما أتلقى خبراً عنهما.

شكرته و عدت إلى غرفة الاستقبال. كانت صوفيا هناك مع يوستيس، و كانت ماجدا قد ذهبت. قلت لصوفيا:

- سيخبرنا تافيرنر عندما يبلغه عنهما شيء.

همستْ: يا تشارلز، لابد أن شيئاً قد حدث!

- عزيزتي صوفيا، إن الوقت لم يتأخر بعد.

قالت يوستيس: ما الذي يقلقك؟ ربما ذهبتا إلى السينما.

ثم خرج من الغرفة متاكاسلاً. و قلت لصوفيا:

- ربما أخذت جوزفين إلى فندق من الفنادق أو إلى لندن، لعلها أدركت أن الطفلة في خطر، ربما أدركت ذلك أفضل.

ردت صوفيا بنظرة كئيبة لم أستطع فهمها جيداً:

- لقد قبلتني قبلة وداع!...

- لم أفهم تماماً قصدها لتلك الملاحظة التي لا تتصل بالحديث فسألتها:

- هل ماجدا قلقة؟


- أمي؟ لا. إنها على ما يرام. إنها لا تشعر بالوقت: تقرأ مسرحية جديدة افاسفور جونز اسمها ((المرأة تقتل)). إنها مسرحية مسلية عن جريمة قتل... عصفورة زرقاء... قصة مسروقة من مسرحية ((الزرنيخ و رباط الحذاء القديم))، لكن فيها دوراً جيداً لامرأة أصابها الجنون عندما أصبحت أرملة.

لم أقل شيئاً. جلسنا نتظاهر بالقراءة.

في الساعة السادسة و النصف فتح تافيرنر الباب و دخل. كان وجهه ينمّ عما يريد قوله لنا.

نهضت صوفيا. قالت:

- خيراً؟

- إني آسف! عندي أنباء سيئة لكما! أرسلت تعميماً للبحق عن السيارة، و قد أفدنا راكب دراجة بخارية بأنه شاهد سيارة ((فورد)) رقمها شيبه الرقم المطلوبة هي تنعطف عن الشارع الرئيسي فيفلا كسبيرهيث و تدخل الغابة!

- أليس هي... الطريق المؤدية إلى محجر فلاكسبير؟

- بلى يا آنسة ليونايدز. السيارة وجدناها في المحجر. كلا الراكبين كان ميتاً! سوف يسركما أن تعرفا أنهما قتلتا على الفور.

- جوزفين!

كان هذا صوت ماجدا التي وقفت عند مدخل الغرفة، و ارتفع صوتها بالعويل:

- جوزفين! طفلتي!..

قامت إليها صوفيا و أحطتها بذراعيها.

قلت: انتظروا لحظة.

تذكرت شيئاً. لقد كتبت إيديث دي هافيلاند رسالتين على الطاولة و خرجتْ إلى الصالة تحملهما بيدها، لكنهما لم تكونا بيدها عندما ركبتْ السيارة!

انطلقت إلى الصالة و ذهبتُ إلى خزانة الأدراج الطويلة، حيث وجدتهما. كانتا مخبأتين في مكان غير ظاهر وراء إبريق الشاي النحاسي.

كانت الرسالة الأولى إلى رئيس المفتشين تافيرنر.

تبعني تافيرنر، فأعطيته الرسالة. فتحها و قرأ سطورها المختصرة و أنا إلى جانبه:

((أظن أن هذه الوصية سوف تفتح بعد وفاتي, لا أرغب الخوض في أية تفاصيل، لكني أقر بكامل مسؤوليتي تجاه وفاة زوج أختي أريستايد ليونايدز و جانيت روي – ناني – إقراراً تاماً
أعلن هنا صراحة أن بريندا و لورانس براون بريئان من دم أريستايد ليونايدز. إذا سالتم الدكتور مايكل شافاسي: 783 – شارع هارلي، فسوف يؤكد لكم أنني لم أكن لأعيش سوى بضعة أشهر. فضّلت أن تنتهي حياتي هكذا لأنقذ شخصين بريئين من محنة اتهامهما بجريمةٍ لم يرتكباها.
إنني في وعيٍ و عقلٍ تامّين إذ أكتب هذا.
إيديث ألفريد دي هافيلاند)).

فرغْتُ من فراءة الرسالة و أدركت أن صوفيا قد قرأتها أيضاً، إما مع تافيرنر في هذا الوقت أو سواه، لست أدري. همست صوفيا:

تذكرت قسوة إيديث دي هافيلاند و هي تسحص بقدمها نبات البلاب و ذكرت أنني اشتبهت فيها مبكراً، لكن لماذا؟...

تحدثت صوفيا عما يدور في رأسي قبل أن أنطق به:

- و لكن لماذا جوزفين؟ لماذا أخذت جوزفين معها؟

سألتُها: لماذا فعلت ذلك كله؟ ما هو دافعها؟

قلت هذا و أنا أعرف الحقيقة. لقد فهمت كل شيء بوضوح. أدركت أنني ما زلت أمسك برسالتها الثانية بيدي. نظرت فيها فرأيت اسمي عليها.

كانت أسمك و أقسى من الرسالة الأولى. أعتقد أنني عرفت ما بداخلها قبل أن أفتحها. مزقت الظرف فسقط منه دفتر ملاحظات جوزفين الأسود. التقطته فتحته، و قرأت ما كتبتْه على الصفحة الأولى...

سمعت صوت صوفيا كأنه قادم من مكان بعيد. كان صوتها واضحاً يدل على ضبط النفس:

- أخطأنا الفهم... إيديث لم تقتل أحداً.

قلت: نعم، لم تقتل إيديث أحداً.
اقتربت صوفيا مني أكثر. همستْ:

- كانت جوزفين، أليس كذلك؟ إنها هي جوزفين.

نظرنا معاً في أول سطر من الدفتر الأسود مكتوباً بخط يد طفلة:

((اليوم قتلتُ جدي)).

*****




- 26 -
... هل كنتُ أعمىً؟ كان علي أن أتساءل بذلك، فقد كانت الحقيقة ظاهرة بوضوح شديد منذ البداية؛ لأن جوزفين وحدها تنطبق عليها كل الشروط اللازمة: زهْوُها و إصرارها على أهمية نفسها، و متعتها في الحديث، و تكرارها الحديث عن ذكائها و غباء الشرطة!

لم أفكر فيها أبداً لأنها كانت طفلة، لكن الأطفال قد ارتكبوا جرائم قتل، و جريمة القتل هذه كانت تتناسب تماماً مع قدرات طفل. فقد أوضح جدها نفسه الأسلوب بدقة فقدم لها فكرةَ قتله، فما كان عليها إلا تجنب ترك البصمات، و أدنى معرفة بالروايات البوليسية يعلّمها ذلك، و كل شيء سواه كان مزجاً لأحداث تختارها هي عشوائياً من قراءتها في القصص الغامضة: دفتر الملاحظات، التحري، شكوكها المزعومة، إصرارها ألا تقول شيئاً إلا بعد أن تتأكد..

و أخيراً، اعتدت على نفسها! كان عملاً يصعب تصديقه، فلعلها تقتل نفسها بسهولة، لكنها – كونها طفلة – لم يخطر ببالها هذا الوجه. كانت هي البطل، و البطل لا يموت!

و كان أثر التراب على المقعد القديم في غرفة الغسيل يدل على أن جوزفين وحدها التي كان عليها أن تصعد على كرسي لتضع قطعة الرخام على حافة الباب. و من الواضح أنها لم تُصَبْ بأذى في المرة الأولى (و هذا واضح من الخدوش ظاهرة على الباب)، فصعدت على الكرسي مرة ثانية و وضعت قطعة الرخام، و كانت تحملها في وشاحها حتى لا تترك بصماتها، و في تلك المرة سقطت عليها و نجت من الموت بأعجوبة.

كان عملاً مثالياً و نجح الانطباع الذي كانت تهدف لتحقيقه؛ أنها تعرف شيئاً و انها في خطر و لذلك تمك الاعتداء عليها!

عرفتُ كيف تعمدت لفت انتباهي إلى وجودها في غرفة الصهاريج و كانت قد أكملت تخريب غرفتها بصورة فنية قبل أن تخرج إلى غرفة الغسيل.

لكنها عندما عادت من المستشفى وجدت أن بريندا و لورانس قد تم اعتقالهما فلا شك أنها شعرت بالاستياء، فقد انتهت القضية، و كانت هي، جوزفين، خارج الأضواء. لذلك سرقت أقراص الديجيتالين من غرفة إيديث و وضعتها في كوب الكاكاو الذي ستشرب منه، ثم تركت الكوب على طاولة الصالة و لم تمسّه.

أكانت تعرف أن ناني ستشربه؟ ربما، و من كلامها في ذلك الصباح و انتقاد ناني لها ظهر استياؤها. هل كانت ناني تشك فيها من خبرتها الطويلة في الأطفال؟ أعتقد أن ناني كانت تعرف دائماً أن جوزفين لم تكن عادية، فقد ظهر مع نمو عقلها المبكر مفهوم أخلاقي مشوه، و ربما اجتمعت أيضاً أسباب وراثية مختلفة، و هو ما كانت تسميه صوفيا ((قسوة العائلة))، كلها التقت مع بعضها!

كان في جوزفين قسوة استبدادية ورثتها عن عائلة جدتها، و أنانية ماجدا القاسية التي لا ترى إلا وجهة نظرها هي. و ربما كانت تعاني من حساسية فيليب أنها غير جذابة...

و أخيراً كان يسري في نخاعها ذلك الأثر المنحرف للعجوز ليونايدز. كانت حفيدة ليونايدز، و كانت تشبهه في الذكاء و المكر، لكن بينما جبه كان موجهاً للعائلة و الأصدقاء، فإن حبها كان متجهاً لنفسها!

اظن أن العجوز ليونايدز كان يدرك ما لم يدركه أي واحد آخر في العائلة، فقد تكون جوزفين مصدر خطر على نفسها و على الناس، و من أجل ذلك ابقاها بعيدة عن حياة المدرسة؛ لأنه كان يخشى أن تفعل شيئاً مشيناً، فحجبها و حبسها في البيت، و قد فهمت الآن إلحاحه على صوفيا أن تعتني بجوزفين.

هل كان قرار ماجدا المفاجئ أن ترسل جوزفين إلى الخارج بسبب الخوف على الطفلة أيضاً؟ ربما لم يكن خوفاً حقيقياً بل غريزة أمومية غامضة.

و إيديث دي هافيلاند؟ هل اشتبهت أولاً ثم خافت و أخيراً عرفت؟

نظرت إلى الرسالة الموجودة بيدي:

((عزيزي تشارلز،
هذه رسالة خاصة لك و لصوفيا إذا شئت أنت. من الضروري أن يعرف أحد الحقيقة.
لقد وجدت الدفتر المرفق في مأوى الكلب المهجور مقابل الباب الخلفي. كانت تحتفظ به هناك، و هو يؤكد ما كنت أشتبه به من قبل. ربما يكون العمل الذي سأفعله صحيحاً، و قد يكون خاطأ، لا أعرف، لكن حياتي – على أية حال – أوشكت على النهاية، و لا أريد للطفلة أن تعاني إن تمت دعوتها لسرد ما أقدمت على فعله.
هناك في الغالب واحد في العائلة ((لا يكون على ما يرام)).

إن كنت مخطئة فليغفر الله لي، لكني فعلته حباً، فليباركّما الله!
إيديث دي هافيلاند)).

ترددت لحظة واحدة فقط ثم سلمت الرسالة إلى صوفيا. و فتحنا الدفتر ثانية دفتر جوزفين الأسود.

((اليوم قتلت جدي)).
قلبنا الصفحات. كانت محتوياته مذهلة و لا بد أنها ستثير اهتمام خبير نفسي. كانت صفحات تحدد بوضوح لا لبس فيه ثورة الغرور المحبَط، و قد اتضح دافع الجريمة، كان دافعاً طفولياً هزيلاً:

((لم يكن جدي يسمح لي برقص الباليه فقررت قتله، ثم السفر إلى لندلن لنعيش هنا، و لن تمانع والدتي أن أتعلم الرقص)).

أنا أقدم هنا بعض الملاحظات التي كتبتها فقط، و كلها ذات دلالة:

((لا أريد الذهاب إلى سويسرا، لن أذهب. و لو أجبرتني والدتي على السفر فسأقتلها هي الأخرى. لكني لا أستطيع جلب أي سم. ربما أقتلها باليوباري، فهو سامّ كما تقول الكتب.
لقد أغبني يوستيس كثيراً اليوم. يزعم أنني مجرد فتاة و لافائدة مني و أن أعمال التحري التي أجريها سخيفة. ما كان سيفكر أني سخفية لو عرف أني أنا التي ارتكبت جريمة القتل.
أحب تشارلز، لكنه غبي. لم أقرر بعد من الذي سأجعله متهماً بالقتل. ربما بريندا و لورانس، إن بريندا سيئة لي، تزعم أن عقلي ليس سليماً، لكني أحب لورانس، لقد أخبرني عن شارلوت كوردي التي قتلت شخصاً و هو يستحم. لم تكن ذكية في عملها هذا)).

كان آخر ما دوّنتْه كاشفاً لكل شيء:

((إنني أكره ناني... أكرهها... أكرهها... تقول بأني فتاة صغيرة. تقول بأنني أتباهى، و هي جعلت والدتي تقرر إرسالي للخارج. سوف أقتلها أيضاً. اظن أن دواء خالتي إيديث سيؤدي الغرض. لو حدثت جريمة قتل أخرى فسوف يعود الشرطة، و سيكون الموقف مثيراً ثانية.
ماتت ناني. أنا مسرورة. لم اقرر بعد أين أخبئ الزجاجة التي فيها الحبوب الصغيرة. ربما في غرفة كليمنسي زوجة عمي، أو في غرفة يوستيس. عندما أموت بعد أن أصبح عجوزاً سأترك هذا الدفتر ورائي ارئيس الشرطة، و سوف يعرفون كيف أنني كنت مجرمة عظيمة حقاً!))

أغلقت الدفتر. كانت دموع صوفيا تنهمر على خدَّيْها بغزارة.

- أوه! تشارلز!... إنه رهيب! إنها صغيرة متوحشة و مع ذلك فهي تثير الحزن و الشفقة جداً!

كنت أحس بنفس الشعور.

لقد أحبت جوزفين، و ما أزال أشعر بحبها. لابد أن تحبها كما تحب مريضاً أصابه السل أو أي مرض آخر قاتل. و كانت جوزفين تثير الشفقة. لقد ولدت و فيها علة... الطفلة المنحرفة في البيت المنحرف.

- تشارلز، لو عاشت فماذا سيحدث؟

- سترسل إلى مركز إصلاحي أو مدرسة خاصة، ثم يطلق سراحها، أو ربما يشهد عليها الناس بالجنون... لا أدري.

ارتجفت صوفيا و قالت:

- ما حدث لها أفضل، لكن خالتي إيديث... لا أحب أن أجعل اللوم عليها..

- هي اختارت هذا، و لن يتم الإعلان عن فعلها، و حين يحال لورانس و بريندا إلى المحاكمة فلن تقدم ضدهما أية تهمة، و سوف يتم إطلاق سراحهما.

قلت لها و كانت نبرتي هذه المرة مختلفة و أنا أمسك بيديها كلتيهما:

- و أنت يا صوفيا، سوف تتزوجينني؟ لقد سمعت لتوي أنهم عيّنوني في إيران، و سنذهب إلى هناك معاً و تنسين البيت المائل المنحرف الصغير، و أمك تستطيع أداء مسرحياتها و والدك يستطيع شراء المزيد من الكتب، و يوستيس يذهب عما قريب إلى إحدى المدارس، فلا تقلقي عليهم بعد الآن و فكري فيّ.

نظرت إليّ صوفيا:

- ألست خائفاً من الزواج بي يا تشارلز؟

- لماذا أخاف؟ إن كل مساوئ العائلة ظهرت في جوزفين المسكينة و كل صفات الخير و الشجاعة في عائلة ليونايدز قد أعطيت لك. كان جدك ينظر إليك نظرة سامية، و يبدو أنه كان على حق. إرفعي رأسك يا حبيبتي فالمستقبل لنا!

- سأفعل يا تشارلز. أحبك و سأتزوجك و أسعدك... – و نظرت في الدفتر – ... كم هي مسكينة جوزفين!

قلت: مسكينة جوزفين!

قال والدي: ما هي الحقيقة يا تشارلز؟

لم أكذب على العجوز أبداً. قلت:

- لم تكن إيديث دي هافيلاند يا أبي. كانت جوزفين.

أومأ أبي برأسه بلطف و قال:

- نعم، لقد اعتقدت ذلك منذ بعض الوقت. مسكينة هذه الطفلة!

*****
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://badai.ahlamountada.com
 
رواية البيت المائل - أجاثا كريستي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية الرهان
» رواية رائعة
» رواية أخرج منها ياملعون - لكاتبها : صـدام حـسـين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات بداي الشلاحي :: الـــــقــــــســـمـــ الأدبــــي :: مـنـتـدى الـقـصـص والـروايات-
انتقل الى: